فى فرنسا وبينما كان الشاعر الإنجليزى الشهير تيد هيوز وزوجته الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث يجلسان على أحد المقاهى، وبينما سيلفيا منهمكة بالكتابة على ظهر بعض البطاقات التى حصلت عليها من إحدى الكاتدرائيات الشهيرة لم تتنبه للمرأة الغجرية فى ملابسها الملونة، والتى ظهرت كظل أسود، وهى تقترب منها وعلى وجهها قناع من الجلد على هيئة هيكل عظمى وطلبت من الشاعرة أن تشترى شيئا مما تبيعه وقدمت لها قلادتين مربوطتين إلى مشبك، واحدة عليها القديس "نيكولاس" وواحدة عليها العذراء، رفضت سيلفيا الشراء دون أن ترفع رأسها لتنظر، فنظرت الغجرية إليها نظرة قاتلة ووجهت إليها إصبعا داكنا أسود تماما فيما يشبه المسدس المصوب نحو رأسها وأطلقت لعنتها بالفرنسية "ستموتين قريبا" ثم هرولت مبتعدة كحيوان هرم.
تيد هيوز وسيلفيا بلاث
فى رواية "أنت قلت" للهولندية كونى بالمن والتى ترجمتها بشكل رائع جدا لمياء المقدم والصادرة عن سلسلة الجوائز بالهيئة المصرية العامة للكتاب، يملك الشاعر تيد هيوز، والذى رحل عن عالمنا 1998 فرصة ذهبية للدفاع عن نفسه بعدما ظل صامتا قرابة 36 عاما منذ انتحار سيلفيا بلاث زوجته وأم طفليه فريدا ونيكولاس فى 11 فبراير 1963 عندما وضعت رأسها فى فرن الغاز، ومن وقتها انهالت السهام قاصدة النيل من تيد هيوز، الذى يبدأ الحكاية من أولها منذ يوم 25 فبراير 1956 اليوم الذى التقى فيه الطالبة الأمريكية سيلفيا بلاث، التى تدرس فى جامعة كامبرديج، أو كما يقول بالتحديد "اليوم الذى أصبحت فيه ملكا لها".
تيد هيوز فى شبابه
جاءت الرواية بلا فصول وبلا أية عناوين داخلية، كأنها رسالة طويلة من نفس واحد طويل، وفيها جعلت الكاتبة كونى بالمن من تيد هيوز رجلا مجروحا ينزف رغم مرور السنوات، ويعرف أن سيلفيا بلاث وسيرتها الانتحارية أساءت إليه كثيرا خاصة أن حبيبته الثانية "آسيا فيفل" فعلت الفعلة نفسها وانتحرت بالطريقة نفسها مستخدمة فرن الغاز سنة 1969 آخذة معها ابنتهما "شورا" ذات الأربع سنوات، مما دفع الناس للتساؤل، ما الذى يفعله تيد هيوز ليجعل النساء ينتحرن؟
يبدأ تيد هيوز الدفاع عن نفسه مبكرا فى الرواية بأسلوب ماكر يخفى الكثير داخله يقول "ما الذى كنت أنتظره من امرأة عضتنى فى أول لقاء بيننا بدل أن تقبلنى".
يقول تيد هيوز لنا: إننا نحن المتعاطفين تماما مع سيلفيا بلاث لم نعرفها جيدا "فمن عرفها ظاهريا، لم يكن ليتكهن أبدأ بأنها تخفى داخلها مقاتلة شرسة، وأنها أكثر بكثير من تلك الفتاة الأنيقة التى ترفع شعرها ذيل حصان، أو الصبية التى توحى بها لأول مرة، كانت أكثر تعقيدا من ذلك".
سيلفيا بلاث
فى الرواية توقف تيد هيوز كثيرا عند علاقة سيلفيا بلاث بوالدها أستاذ الأحياء الصارم حاد الطباع الذى رحل وهى فى الثامنة من عمرها فظلت تبحث عنه دائما، وعرض لنا علاقتها بوالدتها "أوريليا" التى كانت عدوتها الأولى، وتحدث عن محاولاتها المتعددة للانتحار ومرضها النفسى وإصابتها الدائمة بالاكتئاب، فى فترة ما كانت تلاحقها خيالات غريبة وصور دامية عن أقدام مقطوعة وأعضاء بشرية مطحونة ومحروقة ومخزنة فى أكياس مثل أكياس الفضلات فى مكان ما فى محرقة بالمستشفى.
شكك تيد هيوز فى كل شيء يتعلق بسيلفيا بلاث حتى كتابتها خاصة فى فترة البداية، يقول "لم تكن تملك الكثير من الخيال، كل صورها، رموزها واستعاراتها العسيرة المنمقة ابتاعتها بحرفية وخبرة كبيرة من مجلد (روجيه)، و"وأعتقد أن تلك هى المرة التى أخبرتنى فيها بأنها لا تملك أذنا إيقاعية" وقلل من علاقتها بالفنون فقال "ورغم ما تعنيه الموسيقى لى ولكتاباتى، فإنها فى المقابل لا تعنى الكثير لزوجتى التى تعانى عدم التفريق بين النبرات.
بالطبع لا ينكر تيد هيوز ما فعلته سيلفيا بلاث من الوقوف بجانبه وما قامت به من مراسلة للمجلات والصحف من أجله لكنه يقول فى المقابل "فى السنوات الست التى استغرقها زواجننا، فقدت نفسى بالكامل فيما يشبه التضحية لمساعدتها على ولادة الشاعرة الأصيلة داخلها وإيجاد صوتها الحقيقى المتفرد".
تيد هيوز
بعد موتها، يقول تيد هيوز، حاولت فهم الأسباب الحقيقية وراء انتحارها، ويخيل لى أن موتها كان بسبب رغبتها فى استعادة سيطرتها على نفسها، إشارة لكل من سلبوها حياتها، أنها وحدها، من يملك التصرف فى هذه الحياة.
استطاع تيدهيوز الدفاع عن نفسه كثيرا، وساعدته "كونى بالمن" وجعلته أحيانا يقطع السرد ليقدم مفاهيمه فى الكتابة والفن والإنسان ورؤيته ويقيم المقارنات الدائمة بينه وبينها سيلفيا "وكنت لاحظت بطبيعة الحال أن نوبات الهلع والكآبة، وفترات الصمت والبكاء، مهما كان الجرح الذى تنزف منه جديا، موجهة، فى الحقيقية، لإثارة اهتمامى وابتزازى عاطفيا... وزاد لعبها دور الضحية تبلدى وحال دون أن أقف أمام تهديدها بالانتحار وقفة جدية.. ولاحظ الجميع من حولى أننى أبالغ فى حماية زوجتى والاعتناء بها وأنها متملكة وكثيرة المطالب وغيورة.
ومع ذلك لم ينكر تيد هيوز أبدا حبه لـ سيلفيا بلاث، لكنه كان مدركا أنها إنسانة تملك عوامل تدميرها داخلها، بارتباكها النفسى وغيرتها الشديدة وخوفها من المستقبل وبحثها عن الشهرة وأمريكيتها المحدثة فى مقابل إنجليزيته العريقة.
فى جزء من الرواية وكأنه يتحدث إلى نفسه قال تيد هيوز "كان يجب أن أقاوم فكرة أن روحها التجارية تدنس براءة الشعر فى" لكنه يتذكر قولها "هل تصدق؟ عندما أموت سآتى إليك فى هيئة شبح، تماما كـ"كاتي"، تماما كالشحاذ فى أغنية "فالس ماتيلدا".
انت قلت
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة