قد يكون مر فى حياته بما يهون عليه أن يفقد كل يوم صديق، وأن يصحو كل شروق شمس على نبأ وفاة أحد ممن كانوا يشغلون فى قلبه مساحة لا بأس بها، ولكن هى الوحيدة التى لم يفقدها بعد، بل تحدى من أجلها كل تحذيرات الأطباء ولوم الأصدقاء.. لا أعلم لماذا يريدوننى التمسك بالحياة وهم يطلبون منى أن أحرم نفسى منها من أجل أن أعيش؟ فإذا كانت هى ما تجعل فى الحياة متعة فما فائدة الحياة بدونها؟!
تخطو أم الأولاد بقدميها تحملها.. تأتى بها إلىَّ.. رائحتها العطرة.. قوامها المتزن.. اهتزازها بين أسوار الفنجان كالعصفور يطير فى قفصه من جانب لجانب هنا يغنى لحن الخلود وهناك ينشد لحن الحياة.. قهوتى العزيزة كم أفتقدك!!
الرشفة الأولى.. آآه إنها قبلة الحياة التى تسير فى جسمى كإحساس شمس الشتاء عندما ترسل أشعتها الدافئة نحو جسمك، تعيدك مرة أخرى إلى سجل الأحياء، فهى العقد غير المكتوب بين الموت والحياة، فأنت تصحو ميتًا حتى تشرب رشفتك الأولى، الآن أنت تعبر ذلك الطريق الضيق.. ميلادك.. طفولتك.. ذهابك إلى المدرسة.. الآن تعود من المدرسة لتجد الأب جالسًا على أريكته خارج المنزل يلقى بآرائه ونصائحه للجيران؛ فيحمل الصبر للجار الشاكى من زوجته، ويعطى الغضب للابن العاق لأبيه، ثم يلقينى كل فترة بنظرة حنان وأنا أزاحمه بجواره وأحاول أن ألصق جسدى بجسده، وكأنى أحاول أن أجعل الجسدين جسدًا واحدًا وأصيح بكل جوارحى أن هذا الرجل المهيب الذى يحبه الجميع هو أبى.
دومًا الرشفة الثانية هى الطاقة التى تدفعك لتخوض الحياة، فإن كانت الرشفة الأولى تعطيك سر الحياة فالثانية هى من تسير بك فى هذه الحياة، ها هو فنجانى يداعبنى ويحاول أن ينتزعنى من ذكرياتى ليخبرنى أنه ما زال فى يدى، فهيا تشجع واشرب رشفتك الثانية.. المنزل يتشح بالسواد وقد رحل الوالد المهيب ولم يتبق إلا مجموعة من الأفراد كالقارب تسير به الأمواج فى بحر عميق يعلم كل من فى داخله أنه لن ييتحمل أكثر من ذلك، وعلى الرغم من ذلك على كل مَن فى داخل القارب أن يقنع نفسه أنه سيتحمل، ها أنا أقفز لموقع الربان.. أفراح إخوتى.. مشاكل الزواج.. الأم المريضة.. الأب المهيب يستدعى الأم إليه.. زواج وأولاد وتعلم وأفراح وأحزان.. تمضى الحياة والقارب ما زال تتخبطه الأمواج، ولأجل الحقيقة فإن هذا القارب كان متينًا ولكن القبطان لم يعد كما هو، فالآن يستعد للمغادرة وعلى شخص آخر أن يستعد لقيادة القارب.
نظرة نحو الفنجان لتدرك أنه قد أوشك على النهاية، الآن عليك أن تختار إما أن تأخذ رشفتك الأخيرة أو تتركه.. لا مقاومة سأشرب للمرة الأخيرة، آآه إنها الرشفة الأخيرة.. الأصدقاء يرحلون والعائلة تبتعد ولم يبق إلا أنت مع حبيبتك القديمة، فقهوتك العزيزة هى التى لم تتركك بعد ولم تعتبرك ثقلاً زائدًا فى مسيرة الحياة، أتذكر الآن كل تلك الصور التى أصبحت تحمل شريطا أسودا على جانبها.. الفراغ يتسع والأسود يغلب كل الألوان.. اليد تضعف والأعصاب ترتخى.. الفنجان يسقط، أعلم الآن أنى ولت وعشت ومت فى حضرة الفنجان.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة