عاد هشام عشماوى إلى مصر، مُكبّلاً ومعصوبَ العينين، بعدما غادرها فى آخر مرّة حاملاً سلاحه وموهومًا بالنصر. الرسالة التى لا تفوقها أو تدانيها رسالة، أن مصر لا تنسى شهداءها، ولا تُضيِّع دماءهم، وأنّ يدها تطال رقاب أعدائها أينما كانوا، لكن إلى جانب ذلك يشتمل الموقف على رسائل مهمّة وحاسمة، تتّصل بالمشهد الجيوسياسى وخريطة الصراع فى ليبيا والمنطقة، وتحمل فى وجهٍ منها بشائر انتصار عربى كبير، وفى وجوه أخرى علامات انحسار للمدّ التركى والإيرانى، الذى توهّم فى حقبة سابقة أن بإمكانه التطاول وتغطية وجه المنطقة.
استعادة الإرهابى الخطير انتصار مهمّ للدولة المصرية، التى تدير ملفات السياسة الخارجية برؤية استراتيجية عميقة، وحصافة منقطعة النظير. تلك الإدارة تبدو واضحة فى الملفات الإقليمية الساخنة: سوريا التى تغيّر موقف الدول العربية الكبرى من الصراع الدائر فيها بفضل رؤية القاهرة، واليمن الذى يشهد انحسارًا واسع المدى لسطوة الحوثيين المدعومين من إيران، والسودان الذى تراجع حضور الإخوان فى مشهده لصالح تقدّم رؤية وطنية آخذةٍ فى التبلور بين الشعب والمؤسّسات الصلبة، وأخيرًا ليبيا التى شهدت إعادة هيكلة لمعادلة الصراع المشتعل منذ ثمانى سنوات، أسفرت عن تراجع حضور الميليشيات المدعومة من الخارج، وتقدّم الجيش الليبى بمشروعه الوطنى غير المنفصل عن محيطه العربى.
كان يمكن أن تنتهى قصة هشام عشماوى فى «درنة»، خاصة أن الاشتباكات العنيفة التى دارت فى المدينة ومحيطها أسفرت عن تصفية عشرات الإرهابيين، لكن حرص الجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر على الوصول إليه حيًّا، يعود بالأساس إلى الأهمية التى يُمثّلها عشماوى بالنسبة لمصر، ووعى الجانب الليبى بتلك الأهمية يتأسَّس بالدرجة الأولى على رسائل مصر، وتواصلها الفعال مع «حفتر» وقواته، ما يؤكّد عمق الروابط بين الجانبين، وعودة ليبيا، أو القوة الصاعدة فيها، إلى المشهد العربى وحساباته الاستراتيجية، بعدما غيَّبها الصراع طويلاً عن تلك الدائرة، وألقى بها فى محيط مُتلاطمٍ تتنازعه قوى إقليمية ودولية داعمة للميليشيات، تبدأ بتركيا وقطر وإيران، وتمتدّ إلى عواصم أوروبية تختلف حسابات مصالحها عن حسابات العرب، وعن حسابات الليبيين أنفسهم.
الرسالة الأهمّ فى مشهد «عشماوى» بكامله، أن الصورة المُتسيِّدة فى ليبيا منذ إسقاط نظام معمر القذافى فى شتاء العام 2011 تلفظ أنفاسها الأخيرة. فالميليشيات المسلحة يتواصل سقوطها، رغم الدعم الإقليمى والموقف الدولى والأُممى الذى يبدو منحازًا لها، وحكومة الوفاق تخسر داخليًّا وخارجيًّا، مع تنامى فشلها التنفيذى وافتضاح علاقتها بالعصابات الإرهابية، والأهم أن الدولة الليبية التى تعرّضت لاستهداف شامل، تُعيد القبض على خيوط الاقتصاد والسياسة، وتملك جيشًا قويًّا ومتماسك القوام، يتمتّع بدعم القوى الإقليمية الكبرى، وفى مقدمتها مصر، وبفضل ذلك الدعم يتزايد قبوله دوليًّا، وهو القبول الذى تجلّت إشاراته بوضوح فى تغيُّر الموقفين الفرنسى والأمريكى، ومهاتفة دونالد ترامب للمشير حفتر عقب زيارة الرئيس السيسى للولايات المتحدة فى إبريل الماضى.
الآن، يتحرّك الجيش الوطنى الليبى كمؤسّسة صلبة ذات شرعية راسخة، بعدما تعرّض لحرب شعواء، بغرض تعريته من حق الوجود الشرعى وتمثيل الدولة أو لملمة خيوطها المقطوعة. ويبدو مشهد القبض على هشام عشماوى فى أكتوبر الماضى، وإبقاؤه رهن التوقيف والتحقيق طوال ثمانية شهور، ثم تسليمه لمصر وفق إجراءات قانونية واتصالات رسمية، ترسيخًا لحضور المشير حفتر ومؤسّسته الصلبة فى سياق الإدارة السياسية والتنفيذية لليبيا، بعدما فقدت حكومة الوفاق بقايا شرعيّتها الزائلة، بثبوت عملها ضد الدولة الليبية ومصالحها العليا.. ويمكن القول إن ظهور مصر فى صورة رسمية واحدة مع المشير خليفة حفتر، تأكيدٌ حاسم لولاية الجيش الليبى الشرعية، لحين تدارك آثار إدارة فائز السرّاج السيّئة للسياسة، واستعادة المسار الدستورى الذى أهدرته حكومة الوفاق، خاصة أن آخر برلمان منتخب يقف فى جانب الجيش الوطنى.
طوال السنوات الماضية، ظلّت ليبيا رهنًا للصراعات الداخلية، التى تُغذّيها أطراف خارجية مُتربّحة من تنامى سياق الأزمة وتعمُّقه. تلك الأهداف المرسومة خارج الساحة الليبية وغلاف مصالحها الوطنية كانت سببًا فى إفساد كل محاولات التوافق، بدءا من اتفاق الصخيرات فى العام 2015، ثم مؤتمرى باليرمو وباريس فى منتصف وأواخر 2018.
فى الحقيقة لم تضع ليبيا قدمها على طريق الخروج من المحنة، إلا مع امتلاك الجيش رؤية وطنية لحلحلة الأزمة وتعقيداتها، وإطلاقه عملية الكرامة فى العام 2014، ثم اتّخاذه موقفًا واضحًا ومعلنًا من دوائر الدعم الإقليمية والدولية للميليشيات الإسلامية فى أنحاء البلاد، خاصة الشرق ومنطقة الهلال النفطى، وهو ما أجبر القوى السياسية على إعادة النظر فى معادلات ولائها للخارج، وفضح كثيرًا منها أمام قواعدها والمجموع الشعبى.
الآن تبدو ليبيا فى مأمنٍ نسبى، بعدما قطعت شوطًا واسعًا على طريق الفرز وتحديد المعسكرات وكشف روابطها الخفيّة بالخارج، وحتى لو كان الوضع الحالى يحتفظ بقدر من الالتهاب السابق، فإنه لا يعدو سخونةَ احتفاظ الإناء بالحرارة بعدما انطفأت النار، وتتبقّى جولاتٌ أهدأ كثيرًا ممّا مضى، وصولاً إلى مرحلة البرودة، أو الحرارة الطبيعية للمشهد.
إذا كانت عملية تسليم هشام عشماوى تنطوى على عشرات الرسائل المهمّة، ضمن بنية الصراع الليبى، ووفق الرؤية الاستراتيجية المصرية، فأهم تلك الرسائل أن ليبيا استعادت زمام أمورها، ولم تعد ساحة مفتوحة للصراع، بالدرجة التى كانت عليها الأمور من قبل، كما لم تعد خنجرًا فى ظهور الأشقاء والجيران، كما أرادت لها الميليشيات، وسعى رعاة الإرهاب فى الدوحة وأنقرة وطهران، وربّما فى عدد من عواصم شمال المتوسط.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة