بين 2011 و2013 انزلقت مصر إلى حدود «الدولة الرخوة». صحيح أنّ صلابة المؤسَّسات الأمنية عصمتنا من التورُّط فى درجة قُصوى من السيولة، كالتى شهدتها ليبيا وسوريا واليمن، إلا أن تبعات الفوضى المُتولِّدة عن ثورة يناير وأثرها فى بنية الدولة، والإرباك الذى أحدثه الإخوان للمؤسَّسات فى سَنة اختطافهم للسلطة، كانا مُقدّمة سهلة لمزيدٍ من التوتّر الأمنى، وتوسُّع نطاق الإرهاب والأعمال العدائية، ضد الأجهزة الأمنية والمواطنين على حدّ السواء.
المُرجَّح أن هشام عشماوى وغيره من الإرهابيين استغلّوا تلك الحالة، ونشطوا فى استهداف الدولة من داخلها، فبحسب المعلومات المتاحة أقام «عشماوى» لفترة فى شمال سيناء، ووقتها تورَّط فى هجمات إرهابية على الدولة وأجهزتها، منها عملية «الكتيبة 101»، لكن مع استقرار الأمور نسبيًّا فى السنوات التالية لثورة 30 يونيو، بدا فى الأُفق أن قبضة الدولة آخذة فى الإحكام حول محاور سيناء الاستراتيجية، بما يكفى على الأقل لسدّ الثغرات المفتوحة فى جغرافيا الشمال، بالصورة التى سمحت للعناصر الإرهابية قبل ذلك بالتدفُّق الكثيف فى الاتجاهين، وقتها بحث «عشماوى» وفريقه عن ساحة أكثر رخاوة، فكانت ليبيا خيارهم ووجهتهم.
أغلب الظن أن «عشماوى» شقَّ طريقه إلى عالم الإرهاب بحثًا عن الكسب المادى، وليس إيمانًا بأفكار الجماعات الإرهابية والتزامًا ببَيعةٍ منه لقادتها، يمكن القول إنه طرح نفسه فى البداية كمُقاتلٍ مُرتزِق، يتولّى تقديم خدمات لوجستية وتنفيذ عمليات قذرة، وفق اتفاقات ماليّة مُحدّدة، لكن أغرته تلك اللعبة لاحقًا فأسَّس تنظيمه الخاص، مُتبنّيًا منظومة الأفكار والعلاقات التى تتبنّاها جماعات الإرهاب، طمعًا فى الوصول إلى منابع المال ومراكز السلطة التى تُحرِّك تلك المجموعات. وبفضل خبراته العملية والقتالية، حاز مساحة مهمّة وسط غابة التنظيمات والجماعات التى تنامى عددها عقب موجات الربيع العربى، بفضل الانقسام الداخلى فى أوساط المُلتحقين بدوائر الإرهاب حديثًا، سعيًا إلى مزيد من المكاسب والتأثير، وهكذا ترقّى «عشماوى» وتصاعدت أهميته، فى فترة احتدام الصدام بين «القاعدة» ومراكز داعش الناشئة فى المنطقة، ومع تقدُّم الأخير إقليميًّا على حساب الأولى، خلت الساحة لمؤسِّس تنظيم «المرابطين»؛ بتحوّل أغلب منافسيه للتنظيم الوليد، ليلعب هو دورًا مركزيًّا ضمن خريطة انتشار القاعدة فى شمال أفريقيا.
لعبة هشام عشماوى كانت مختلفة منذ اللحظة الأولى عن غيرها من ألعاب الإرهاب وحواضنه. فالشاب الذى بدأ حياته مُقاتلاً فى الجيش، لم يخُنْ بهذا الانحراف انتماءه الوطنى فقط، كمواطن تجاوز مصالح بلده خدمةً لأعدائه أو طمعًا فى مصلحة شخصية، وإنّما خان قَسم الولاء الذى أدَّاه طالبًا فى الكلية الحربية وضابطًا فى الصاعقة، ما يعنى أنّ له حسابًا مُضاعَفًا يتجاوز غيره من الإرهابيين. ولأنّ مفارز المؤسَّسات المصرية يصعب اختراقها من خلال شابٍ ذى هوى راديكالى مُتطرِّف، فهذا تأكيدٌ لعَرَضيّة تحوّله، ودخوله ساحة الإرهاب مُرتزِقًا أجيرًا، وليس عضوًا أصيلاً تقوده قناعة مُعتلّة أو فكر مُختلّ، وتلك نقطة أخرى ومحورٌ ثالث فى ملفّات الحساب، فمصر لا تقبل مُطلقًا أن يتحوّل واحدٌ ممّن وضعت زىَّ العسكرية المُقدّس على أكتافهم، إلى مُرتزقٍ يُحرِّكه المال، حتى لو تطهَّرت منه المؤسَّسة ونزعت لباسها عنه. إذ يظلّ رهن القيم الوطنية وحسابها المُغلَّظ.
إذا كان انتقال «عشماوى» من مصر إلى ليبيا دليلاً على خروج الدولة المصرية من أزمتها، وانتهاء المرحلة الرخوة التى صنعتها فوضى 2011 وما بعدها، فإن هذا الدليل نفسه يعنى أن الجارة الغربية تورَّطت فى الرخاوة، حتى أصبحت الوجهة الأسهل لفلول الإرهاب، وهو ما يُمثِّل تحدّيًا مُضاعَفًا لمصر، أوّلاً فى ضوء انتمائها العربى والأفريقى، الذى يأبى عليها ترك الأشقاء رهينة للإرهابيين والميليشيات الوكيلة عن قوى إقليمية ودولية مُعادية، وثانيًا لأنّ هذا التحوُّل يتصادم مع دوائر الأمن القومى المصرى، التى تحضر ليبيا كركيزة أساسيّة فيه.
التفاتُ مصر القوىّ والمُباشر للمشهد الليبى، ودعم المؤسَّسات الوطنية فى الجارة الشقيقة، بمثابة الرسالة بالغة الوضوح للقوى المُعادية بأنّ الليبيّين لا يقفون فى ساحة الصراع بمفردهم، والأهمّ أنها رسالة بخروج الدولة المصرية من سياق الأزمة، الذى فرضه عليها الإخوان وحلفاؤهم، وانتهاء حقبة التقوقع على نفسها، بعدما نجحت فى تجفيف دوائر الخطر الداخلية، وهيكلة مؤسَّساتها واستعادة عناصر قوّتها، إضافة إلى التأسيس العميق لمشروعها النهضوى، المُرتكز إلى دولة قوية، واقتصاد مُستقرّ، وسياسة خارجية مُتوازنة، وإدارة فاعلة للملفّات الحيوية وفق مقتضيات المصالح الوطنية العليا، وصيانة أمن المحيط الإقليمى، باعتباره أمرًا وثيق الصلة بأمنها الداخلى ومصالحها الاستراتيجية.
رغم أن تسليم «عشماوى» لمصر يبدو أمرًا بسيطًا، بالنظر إلى حجم المجرم قياسًا على حجمى البلدين، إلا أن الرسائل الأمنية والاستراتيجية التى انطوى عليها المشهد كانت أكثر وضوحًا فى المراكز الإقليمية الراعية للفوضى المُحتدمة فى ليبيا، ويبدو أن تلك المراكز وضعت يدها على المعانى العميقة التى تضمّنتها مراسم التسليم ونقل قائد تنظيم «المرابطين» من شرقى ليبيا إلى مصر، ووصلت قراءتها للأمر إلى حدود استشعار الخطر بشكل حقيقى، ما كان سببًا فى تنفيذ غارات جوية لطائرات تركية على مدينة «غريان» فى اليوم التالى لنقل «عشماوى»، حسبما صرَّح اللواء أحمد المسمارى المُتحدِّث باسم الجيش الوطنى الليبى.
تحرُّك تركيا الأخير، إلى جانب تحرّكات أخرى مُتزامنة من قطر وإيران وغيرهما، قد تكون مُقدّمة لمزيدٍ من محاولات التصعيد من جانب الميليشيات وداعميها، ومع نجاح المشير حفتر ورجاله فى صدّ تلك الموجات، قد تنكسر سطوة الإرهاب بشكل كامل، ليكون تسليم هشام عشماوى حجر الزاوية ونقطة الانطلاق نحو بَسط سيطرة المؤسّسة العسكرية الليبية على المشهد المشتعل فى أنحاء البلاد، وصولاً إلى اكتمال تحرير العاصمة طرابلس، وتوحيد ليبيا للمرة الأولى منذ سنوات!