تكبَّدت قطر خسائر سياسيّة فادحة منذ مقاطعة الرباعى العربى قبل سنتين، وعانت نزيفًا اقتصاديًّا يُناهز 500 مليار دولار، حسبما قالت المعارضة وأوردت «سكاى نيوز» نقلاً عن خبراء، لكن تظلّ أصعب خسائرها، ذلك الموقع الذى تبوَّأته بين المارقين والخارجين على القانون!
حينما صكَّ رونالد ريجان تعبير «الدولة المارقة» قبل ثلاثة عقود، كان يقصد نمطًا من خروج الأنظمة على القانون الدولى، وفى 1994 فسَّره مستشار الأمن القومى الأمريكى، أنطونى لايك، بأنه يشمل مساعى امتلاك أسلحة نووية، ودعم الإرهاب وسوء معاملة الشعوب، ووضع له الفيلسوف ناعوم تشومسكى إطارًا قانونيًّا فى كتابه «الدولة المارقة.. استخدام القوة فى الشؤون العالمية»، باعتباره انتهاكًا لميثاق الأمم المُتّحدة. وبعدما استُبدل الاصطلاح بتعبير «محور الشر»، فى خطاب جورج بوش أمام الكونجرس، يناير 2002، لم يخرج الأمر عن أسلحة الدمار الشامل، واختراق القانون وتهديد الجيران. كان يقصد إيران وقتها، ولاتزال المعايير تنطبق عليها، وتطال بالضرورة تابعتها قطر.
ربّما لم تسع الدوحة لامتلاك ترسانة نووية، لكنها تدعم بلدًا يملك برنامجًا نوويًّا غير شرعى، وإلى جانب ذلك لم تتوقّف عن دعم الإرهاب وتهديد المنطقة، وانتهاك ميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولى، فضلاً عن التعسُّف مع المُعارضة، وسوء معاملة الوافدين، وهو ما أثبتته تقارير حقوقية عالمية، وأُثير ومازال أمام منظمة العمل الدولية.
كلّ ما سبق يجعل قطر بلدًا مارقًا بامتياز، وإذا أُضيف انتهاك ميثاقى الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجى، واتفاقى الرياض 2013 و2014، وميراث العروبة بذخيرته وأعرافه، فإن المُروق يرقى إلى حدِّ الإجرام المُتعمَّد، لتُصبح الإمارة بفضل تجاوزاتها المُتّصلة، وما يضيفه تحالفها مع تركيا وإيران، مارقًا يغرق حتى أُذنيه فى ورطةٍ حقيقية!
ربما تكون تقديرات «سكاى نيوز» للخسائر عند 500 مليار دولار مُبالغة، لكنّ الإمارة تكبّدت بالفعل فاتورة قاسية، لقاء انحرافها وتعنُّتها فى الإقرار بما ارتكبت، والأنكى أنها تجاوزت الخسارة المباشرة، إلى فتح بابٍ عريض للابتزاز الذى لا تملك التمرُّد عليه.
خسر الريال قرابة 2 % أمام الدولار فى بداية المقاطعة، ثمّ فقدت البورصة 8 % من قيمتها (600 مليار ريال وقتها/ 165 مليار دولار)، وتجاوزت خسائرها 60 مليار ريال (16 مليار دولار) منها 22 فى مارس الماضى وحده، تكبَّد قطاع الطيران 70 مليون دولار فى 2017، قفزت إلى 150 فى العام التالى، بشكل أجبر الخطوط القطرية على تقليص مشروعاتها وإلغاء خطط التوسُّع فى أفريقيا، حسبما قال رئيسها أكبر الباكر، وحُرِم مطار حمد من مليون مسافر سنويًّا، وخسرت السياحة 450 ألفًا، أغلبهم من دول الخليج، كانوا يضخّون قرابة 4 مليارات دولار.
أزمة السيولة أجبرت الدوحة على طرح سندات دولية قياسية، بالنظر إلى سوابق طروحاتها، فسجّلت فى إبريل 2018 ويناير ومارس 2019 طرحًا إجماليًّا بـ25.3 مليار دولار (93 مليار ريال)، وتجاوزت خسائر البنوك 40 مليار دولار، إذ فَقَد «قطر الوطنى» 2.7 % من أصوله (200 مليون ريال)، ونزحت ودائع بـ12.4 مليار دولار، وزادت مصارف الإمارة حصص الأجانب من 25 إلى 49 %.
الأفدح أنها سدَّدت 15 مليون دولار شهريًّا لـ2000 جندى فى القاعدة التركية، ومثلها لعدد أكبر من الحرس الثورى الإيرانى يتولّون تأمين قصر الوجبة وعدد من المُنشآت، إضافة إلى إيجار ميناءين إيرانيّين لنقل السلع، إذ اعتمدت على طهران فى تدبير احتياجاتها بنسبة 95 % تقريبًا، وتجاوزت كُلفة تلك البنود 3 مليارات دولار.
فى حقل غاز الشمال، أو «فارس» كما تُسمّيه طهران، تُنتج الأخيرة 60 % رغم امتلاكها 37 % فقط، وإمعانًا فى الابتزاز أجبرت قطر على تصريف قدرٍ من الزيادة، للتحايل على العقوبات الأمريكية، بينما سحبت تركيا أكثر من 3.5 مليار قدم مُكعّبة يوميًّا من الإمارة بـ14 مليون دولار (أقل بـ45 % من الأسعار العالمية)، وفى ضوء آلية تعامل أنقرة مع الدويلة الصغيرة، يُحتمل أنّها لم تدفع تلك الفاتورة الزهيدة أصلاً.
أُجبرت الدوحة كذلك على زيادة استثمارات صندوقها السيادى فى تركيا إبان أزمة 2018، من 20 لـ35 مليار دولار (بنسبة 75 %)، وتكرَّر الأمر فى إيران، للتغلُّب على اهتزاز الاقتصاد وخَلل الماليّة العامة وارتفاع التضخُّم وانهيار العُملة، ليُسجّل 25 مليار دولار، بزيادة 10 مليارات دفعةً واحدة.
يُضاف إلى ذلك تمويل وتسليح ميليشيات العراق وسوريا وليبيا واليمن، الذى تُجبَر الإمارة على تحمّله بالكامل، بل إنّها تُسدِّد فاتورة إقامة مئات من الإخوان وقادة الميليشيات فى تركيا، وجانبًا من عمليات الحرس الثورى فى سوريا، ونفقات حزب الله اللبنانى وحركة حماس فى غزة، كُلّ ما تريده طهران وأنقرة يتحقّق بأموال قطر، فى ابتزازٍ مفتوح، أصبحت مُجبرةً عليه ولا تملك سبيلاً للتراجع عنه.
لم تقرأ قطر المشهد فى وقتٍ مُناسب، ولا مُتأخّرًا، فلم تلحظ رسائل الإدانة والتحذير. خسرت مصر والسعودية والإمارات واليمن وليبيا، بعد عملياتها العدائية ضدَّها، واهتزَّت روابطها بالأردن وموريتانيا والسنغال والنيجر وجزر المالديف وجيبوتى وجزر القمر، وتقلَّصت مساحة الودّ مع الكويت وعمان، عقب إفساد مبادرتيهما للوساطة، فاكتملت خسارتها لدول الخليج الخمس، والأخطر أنها عبّأت نفوس الملايين بالعداء، ما قد يفرض عليها حصارًا شعبيًّا بعيدَ المدى، حتى لو شهدت العلاقات الرسميّة مُصالحةً فى مُستقبلٍ منظور.
إذا كانت الدول العربية قد اضطُرَّت للمقاطعة، لإطلاق ضوء أحمر برفض ممارسات قطر الشائنة، ومُحاولة ردِّها عنها، فإن مُكابرة الإمارة قادتها إلى آخر المدى، فبات الرجوع مُستحيلاً، وأصبحت بلدًا مارقًا، ومُنسحِقًا أمام الأتراك والفُرس، يُطوِّر المُقاطعة إلى قطيعةٍ، ربّما لا يَسهُل بعدها العودة إلى العرب، وقد يحتاج التكفير عنها سنوات، لن تُتاح قَيدَ الوصاية وابتزاز أنقرة وطهران. لذا فالمُتوقَّع غالبًا أن تظلّ الإمارة المارقة فى ورطتها، وأن تستمرئ التدحرُجَ على مُنحدرِ القطيعة!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة