فى ديسمبر 1999 حرّكت النيابة اللبنانية عريضةً بحق المطرب مارسيل خليفة، تتضمَّن اتهامه بـ«تحقير الشعائر الدينية». كان ذلك بسبب غنائه قصيدة محمود درويش «أنا يوسف يا أبى»، التى يقول فى آخرها «فهل جنيتُ على أحدٍ عندما قُلتُ إنّى رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لى ساجدين».
وقتها هاج رجال الدين السنّة، وفى طليعتهم مُفتى البلاد محمد رشيد قبّانى، مُتّهمين «مارسيل» بتلحين القرآن وغنائه؛ لتتحرَّك التهمة ويمثُل للتحقيق، قبل أن تقضى إحدى المحاكم ببراءته، تأسيسًا على انتفاء سوء النية، وعلى عدم استخدام الآية بكاملها، وأنه لم يخرج فى أدائه عن الخشوع وتوقير النصّ.
قبل قرابة سنتين واجه المطرب السعودى طلال سلامة اتّهامًا مُماثلاً، وكان قد أطلق أغنية اسمها «وطن» خلال 2016، أعاد غناءها فى احتفال المملكة بيومها الوطنى فى 23 سبتمبر 2017، يقول فيها: «ما أجملك دين وملك/ ما أروعك ربّ الخلايق فضّلك/ بالسيرة والذكر الحَسن/ محروسة من كلّ الفتن/ ومعوّذة بربّ الفلق/ من شرّ كلّ ما خلق/ يا سعودية يا أحلى وطن».
أغنية «طلال» القديمة استُغلِّت سياسيًّا من جانب قطر، فى ضوء خلافها مع الرباعى العربى «مصر والسعودية والإمارات والبحرين»، فكثّفت منصّاتها الإعلامية وحسابات «تويتر» داعمة لها، الهجوم على المطرب بدعوى تلحينه القرآن، رغم أن كاتب الكلمات ابتعد عن الصيغة التوقيفية للنصّ، فاستخدم «معوّذة» بدلاً من «قُل أعوذ»، ووضع «كلّ» حَشوًا فى بِنية «من شرّ ما خلق»، فضلاً عن قِدَم الأغنية وذيوعها قبل الحفل بسنة كاملة.
سبق الواقعتين بسنوات، إطلاق المطرب الإيرانى محسن نامجو أغنية باسم «شمس» تتضمَّن آيات قرآنية، تنوّعت إيقاعاتها بين النهاوند الشرقى، وموسيقى الروك والبلوز، وواجه قضية من القارئ عباس سليمى انتهت بحُكم بالسجن خمس سنوات، أفلت منها «نامجو» بفضل إقامته فى الولايات المتحدة. والأمر نفسه حدث مع المطرب التركى عمر الفاروق، الذى أصدر نسخة من سورة الفاتحة فى ألبومه «وراء السماء» أواخر التسعينيات، ووقتها لم تكن تركيا قد سقطت فى قبضة «العدالة والتنمية» فمرَّ الأمر بسلام!
الوقائع السابقة، وغيرها ممّا لا يتّسع المقام لذكره، تفتح بابًا مُهمًّا لمناقشة حدود التعامل المسموح به مع القرآن، وهل يخصم من النص أن يُعاد إنتاجه فى وسائط أخرى؟ وهل يرتبط الأمر بإجلال القرآن أم بموروث حدّد وسائل إرساله واستقباله؟ خاصة أن مرويّات عديدة مرفوعة للرسول تحضّ على «التغنّى» به، وتتحدَّث عن أنماط قراءة تشمل المدّ والإطالة والإمالة والترجيع فى الحَلق، بصورة قد تُمثّل تنويعًا أكبر وأوسع مدىً من الترتيل المُكرَّس له فقهيًّا. يُضاف لذلك تُراث مدارس التلاوة فى مصر والمغرب والعراق، الذى استعان بالمقامات لإعادة إنتاج النص وتجويده، توظيفًا لإمكانات الصوت وموسيقاه فى تقريب الآيات للمُستمعين، وتعزيز أثرها النفسى والروحى، بصورة قد لا يُحقِّقها الترتيل بآليّة روتينيّة!
التحفّظ على الأمر يعود إلى نظرة دونيّة للموسيقى، والحقيقة أنها تجريدٌ للصوت، ارتدادٌ به من صيغته الديناميكية المُعبّأة بمُعضلات الاجتماع والأنثربولوجى، إلى أصوله الصافية الواحديّة، إذ تتحلَّل الأصوات على تنوُّعها إلى نغمات، واللغات إلى مقامات ورَصفٍ رياضىّ لتواتُرها على مسافاتٍ زمنيّة، وهى فى ذلك الوجه ليست تمرُّدًا على الأُطر التنظيمية للاجتماع البشرى، وإنما استجلاء لمنبعه الصافى، وبَحثًا عن مُشتركاته العريضة، وكأنها قبضٌ على الجِذع بينما تستطيل الفروع وتتشعَّب.
خلق الله العالم، وفى قلبه الموسيقى، ليس على المذهب البسيط فى القول إن تغريد البلابل وزقزقة العصافير مبدأ الأوتار والأنغام، ولكن من نظرة قاعدية تُعيد كل الأصوات فى تعقيدها وتراكبها إليه، باعتباره مُنشئها الأول والراعى المُباشر لتناميها، ومن ثمَّ فالنص والنَّغَم من مشكاةٍ واحدة، بالأصل وتُربة النشوء، وباعتبار وحدة المادة الأوّلية، واتّخاذ موقف حادٍّ من الموسيقى، يستتبعه اتّخاذ موقف من الحناجر، وهى فى جوهرها نبراتٌ وصمت، أى أصوات فى الزمن، وما تمنحه حنجرة القارئ وأحباله الصوتية للنصّ من طاقة وفِعلٍ نغمىّ، لا يتطابق تمامًا مع ما يمنحه غيره للنص نفسه، وفى كلّ الأحوال نحن أمام تنغيمٍ تصنعه النبرة الطالعة من صُندوق الحنجرة، وتجفيفها يعنى الاكتفاء بالنصّ مرسومًا بالحروف، لأن كل إنتاج صوتى فى جوهره إنتاج موسيقىّ، وكلّ طرح للنصّ ينطوى على طاقةٍ مُفارقةٍ لجوهره وأُطروحاته الأخرى.
مسألة تلحين القرآن ليست جديدة، كان محمد عبد الوهاب يتطلّع لإنجاز شىء فيها، وتحدَّث عن الأمر مع مُقرّبين، ولمّح له فى حوارات، وقال أنيس منصور، فى أحد مقالاته، إنه أسمعهم آياتٍ مُغنّاة فى سهرة رمضانية. وتحدَّثت مجلة «المصوّر» فى رثائها للشيخ زكريا أحمد عن محاولات شبيهة، وكان رياض السنباطى وأم كلثوم يحلُمان بإخراج نسخة مُغنّاة من سورة الرحمن!
أوبرا جاكرتا الإندونيسية خاضت تجربة فى إبريل 2014، وضع فيها الموسيقار فيرو آديانسيا صيغة أوبرالية للآية 13 من سورة الحجرات «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى...»، غنّاها «التينور» فارمان بورناما بأداء لامع يُصاحبه «كُورَس» ضخم من الرجال والنساء. وأثارت وقتها جدلاً واسعًا داخل إندونيسيا، وفى المنطقة العربية!
ينطوى الأمر على ملاحظات، ويطول فيه الأخذ والردّ، بين محاولاتٍ قد لا تنقطع فى المستقبل، وتراث يُحدّد أُطر التعاطى مع النص، لكن لا يُمكن تجاهل أن القراءة بالمقامات ظلّت مرفوضةً لقرون، وما يزال فريق من الفقهاء يراها خروجًا على القدسيّة، بينما يتلقّاها الملايين يوميًّا. وإذا كُنّا قادرين على كَبح المغامرات الغريبة هنا، فقد يفعلها آخرون بعيدًا، كحالتى نامجو الإيرانى وفاروق التركى، وما يزال الرفض مستندًا إلى حُرمة الموسيقى، وهو أمرٌ مُختلَف فيه فقهيا، ولا يُقنع الموسيقيين وجماهيرهم. فماذا لو تكررت المغامرة فى بلد غربى؟.. تحتاج الإجابة جَهدًا فكريًّا عصريًّا، أعتقد أنه لا ينفصل عن خطاب التجديد الذى أصبحنا فى أشدِّ الحاجة إليه!
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة