عندما أصدر ديوانه الأول " طور الوحشة" – 1980 لقى الكثير من الرفض والهجوم، بل والسخرية من أقرانه ومجايليه ومن سابقيه من الشعراء على السواء ، فى تلك الأثناء كان صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وحجازى ومعهم عفيفى مطر يهيمنون بدرجات على الحياة الشعرية فى مصر ، وكان المقلدون كثيرين لهؤلاء الأربعة ، حتى ضمن شعراء جماعتى أصوات وإضاءة، التى انتمى محمد عيد إبراهيم للجماعة الأولى ورافق شعراء الثانية على درب الحلم بقصيدة تخالف قصائد الرواد وتكتسب المشروعية من قدرتها على التجديد
" طور الوحشة" كان ديوانا نثريا خالصا ،يخالف المألوف والسائد من القصائد والدواوين آنذاك ، كما كان ديوانا من الغضب داخل اللغة ، قصائد من التركيبات الغرائبية والجمل المقطوعة الأوصال وعناوين ملغزة وسياقات تحتاج إلى جهد فى تفسرها وتأويل مراميها ، وكان التلقى السهل عندئذ ممن يقلدون الكبار أو يطالبون بقطيعة جزئية معهم أو الإبقاء على بعض جماليات قصيدة التفعيلة والنشيد الحماسى والشفاهية الفخمة التى تأسر المسامع ، كان هؤلاء يرفضون اقتراحات محمد عيد الجمالية ويخشونها حتى باعتبارها حلا جماليا فرديا يخصه وحده ، فلم يكن مسموحا فيما يبدو إلا بالتجريب داخل الإطار المعجمى والنغمى الذى ساد آنذاك ، بما يعنى السير على الطرق التى عبدها رواد قصيدة التفعيلة
وفى تلك الأثناء أيضا ، لم يكن زلزال " لن" أنسى الحاج وحراك مجلة شعر اللبنانية مؤثرا على نطاق واسع فى مصر الخاضعة لتأثير المد القومى فى الشعر والأدب والحماسة التى تنقل النضال من السياسة إلى الشعر دون معالجة جمالية ، لكن عمل أنسى الحاج كان مسموعا ومؤثرا إلى حد كبير فى روح وتفكير ورؤية محمد عيد إبراهيم ، وبدلا من "لا تصالح" أمل دنقل أو "مذكرات الصوفى بشر الحافى" لصلاح عبد الصبور أو "أنت واحدها وهى أعضاؤك انتثرت" لعفيفى مطر ،أو حتى "مفرد بصيغة الجمع" لأدونيس، كان اكتشاف الاقتراحات التى حملها ديوان " لن" مزلزلا لوجدان محمد عيد إبراهيم ومن خلاله وجد طريقه للتعبير ، بل وإعلان غضبه واكتشافاته داخل القصيدة .
بعد الصدمة الأولى فى " طور الوحشة" التفت محمد عيد إبراهيم إلى الترجمة ، وحاول أن يسبغ على ترجماته أسلوبيته الغاضبة فى صياغة العبارة ، وبعد عشر سنوات تقريبا أصدر ديوانه الثانى على نفقته الخاصة وبعنوان أكثر استفزازا لأقرانه ومجايليه من الشعراء "قبر لينقضَّ" ، ولم يكن حظه أفضل من سابقه فى التلقى ، ووجه الشاعر بحملات استهجانية ووصف بتعمد الغرابة واختيار التراكيب الحوشية والعبارات الملغزة والسياقات المبتورة ، لكنه لم يتراجع عن مساره الشعرى الذى اختاره لنفسه ، وتتابعت أعماله" فحم التماثيل / الملاك الأحمر / مخلب في فراشة / بكاء بكعب خشن / خضراء الله ، وحتى ديوانه الأحدث " عيد النساج""
الجماهير فى العراء/ حبيسة غرفتى / الذى سنبنيه / فحشٌ فى الأرض/ هل يفيد اعبروا عن الحلم بى- على تراب المحنة ص11"
افتحوا أرصفة الأرض/ كلما كنت وحدى / تيه ملفق محتمل/ينتخب الأسماء كالطاعة/دون وجل/ بينما يسهو عن سلاحى/ وكأننى المغدور- فحم التماثيل ص28"
وبعد نحو أربعين سنة أو أكثر من الانخراط فى الحياة الشعرية والثقافية المصرية يمكن القول إن الشاعر محمد عيد إبراهيم ، كان من أخلص شعراء جيله لفكرة الخلق والتجديد والمواكبة والانفتاح على الآخر ، سواء على مستوى إنتاجه الشعرى أو ترجماته التى سد بها نقصا فى المكتبة العربية ، وبينما كان رفقاء الحلم والشعارات ينكسرون ويتحولون إلى نوع من الأصولية الثقافية البغيضة أو الجمود الإبداعى ويواجهون الأجيال الطالعة بما ووجهوا به من تعسف وعنصرية وضيق أفق وجمود ، كان محمد عيد إبراهيم ماضيا فى طريقه الذى اختاره لنفسه ، يرحب بكل جديد ويواصل البحث عن روافد مختلفة لمشروعه الإبداعى ويسعد بالتفاعل مع الأجيال الأصغر منه ويشارك بحماسة فى فعالياتهم ، حتى يمكن أن نقول باطمئنان إنه الراهب المتجاهل فى محراب قصيدة النثر المصرية .
"أتظاهر فى آخر الليل أنى معك / فأخلع ذكرياتى /وأحشو ضحاياك على طبق/ أغذى به النار/ فلا أعود أحتاج إلى متعذب"- الملاك الأحمر
"فيما يرى النائم / كنت أسير جنب البحر/ يأكلنى القهر / منسجما بأنك معى/ دخنت سيجارتين / على حالى أروح /أجئ ثم أروح ، وهكذا/ مثل صراف التفليسة"- مخلب فى فراشة
"من أين يبدأ/ هل يحلم بامرأة سمينة /تضع فخذا على فخذ، وهي تميل بصفحة ظهرها عن الكرسي /ككفل ناقة حقود/ فيأكل من لحمها وهو سكران/ من أين يبدأ؟"- السندباد الكافر
كان الهم الأول للشاعر محمد عيد إبراهيم أن يجد لنفسه طريقا ، وكأى شاعر مثقف ، كان الطريق يبدأ وينتهى باللغة وبتصوره عنها وبقدرته على التعامل معها ، وبينما كان شعراء عديدون يتصورون اللغة مجرد وعاء لفكرة أو كأس مزخرفة لشراب الشعر ، كان محمد عيد إبراهيم يعى أن لغته هى وعيه وتصوره عن العالم وإرادته للتغيير وطلسماته لخلق عالم مواز أو عالم جديد ، ومن ثم كان سعيه لإيجاد عالمه بلغته يبدأ بإعلان الحرب على كل طرق القول والإنشاد والترديد التى سادت فى زمنه ، بل وإعلان الحرب على العبارة الوديعة المطيعة للمعنى المباشر والتى تعمل ساعى بريد لدى الشعراء ، وصارت القصائد عزائم وزمزمات وزفرات غضب وتفجيرات انتحارية داخل فضاء المعنى لاستفزاز القارئ الكسول الذى يجلس مضطجعا أمام شاشة العرض، لينهض ويستكمل أحداث الفيلم وعبارات الحوار ويملأ فراغات الصمت والبياض بخياله وانفعاله وتفسيراته
يمكن الإشارة إلى مرحلتين فى مسار محمد عيد إبراهيم ، المرحلة الأولى ونسميها الغلو فى تحطيم المعنى المباشر وإعلان الغضب من خلال اللغة ، وهذه المرحلة تشمل دواوين " طور الوحشة / قبر لينقض/ على تراب المحنة / فحم التماثيل" ، أما المرحلة الثانية التى تشمل دواوين " الملاك الأحمر / مخلب في فراشة / بكاء بكعب خشن / خضراء الله ، وحتى ديوانه الأحدث " عيد النساج" ، فهى مرحلة البحث عن القول الجمالى أو استخراج كلام الشاعر من اللغة بما تشى به من بحث أسلوبى ومكابدات تقنية من التدوير إلى التكرار إلى الغنائية المقطرة ، وبقدر غضب الشاعر وتوحشه فى المرحلة الأولى جاءت محاولاته الجمالية فى المرحلة الثانية متصالحة مع المعنى وراغبة فى هدنة بين حضوره وتلقيه من قبل القارئ
فى ديوانه الأحدث – بحسب ما وصلنا – "عيد النساج " ، يتخفف الشاعر إلى حد بعيد من المنطق الصراعى مع اللغة ، ويتجه إلى السرد المطعم بالإشارات التراثية والسبك المحكم والجمل التى تكتسب إيقاعها من قصرها وتتابعها ، وكأنه ينحو إلى المصالحة مع اللغة التى اعتاد تقطيع أوصالها وتفجير علاقاتها المستقرة الشائعة ، باعتماد خطاب تراثى فى القول والكتابة
"عيدُ النسّاجِ، فَحْلٌ من القُرى، يكِدُّ نهاراً ويَسهَرُ ليلاً. شارِبٌ مقسُومٌ مِثلَ هتلرَ، وشفَتان مُزمَّمتان كابنِ أبي طالب. وَجهٌ وامِضٌ، مِثلَ أنورَ وجدي، ثم انقلَبَ معَ الأيامِ إلى نَمطِ الريحانيّ. حياةٌ تفتَحُ السِّدادَة، بضَجّةٍ أقَلّ، وصَحنُ كُمِّثرى جنبَ مِبسَمِ شِيشَةٍ. ساطِعاً، يرقَى السلالمَ، بيدٍ مفتوحَةٍ، لتلَقِّي عصفورٍ من رَحمةٍ بالسماءِ. ويبكي مرّةً، فينهالُ رزٌّ على بلاطِ الشقَّةِ"- عيد النساج
صورة الأب التى تلوح فى الذاكرة كلما أوغل الشاعر فى العمر ، فكأنما يستعيد أيامه الأولى كلها ، ما شهده من مكابدات وما صادفه من عقبات والطريق الطويل الذى سار فيه كادحا ناحتا فى الصخر ، وذلك من خلال استحضار الأب بوصفه الخارجى والداخلى ، وكأننا أمام دورة زمن حيث النقطة نفسها التى عبرها الأب والتقطها الإبن ، هاهو الشاعر يعبرها بعد كر السنين ، فإذا به يعود لمشهد الأب ويوظفه كمرآة ينظر فيها إلى نفسه، وفى قصيدة أخرى بعنوان "1955" تاريخ ولادة الشاعر ، نكون أمام نوع من الحوليات التراثية وأيام الأعيان حيث يسرد الشاعر بكثير من السخرية والتلاعب أحداثا وقعت فى مثل هذا اليوم ولكن قبل مئات وآلاف السنين ، ويضع حواشى وهوامش ونهايات مختلفة
الديوان الذى يعد سيرة ذاتية جمالية ، يغلب عليه الوصف واستحضار شخصيات غائرة فى الذاكرة ، تقاطع معها الشاعر عبر محطات حياته المختلفة ،عبد المقصود عبد الكريم ، عفيفى مطر ، أنسى الحاج ، صلاح فائق ، وهو يلجأ فى كثير من الأحيان لاستخدام آلية قراءة الصور القديمة ، لتضمينها دفقة المشاعر الغالبة عليه ، بأسلوب مغرق فى نثريته ووقوفه بالتفاصيل الدقيقة وإن كان يراهن على المفارقة أو على إضاءة النص بجملة مفتاحية تدفع القارئ لأن يعيد القراءة مرة بعد مرة
يقول فى قصيدة باسم الشاعر عبد المقصود عبد الكريم:" صورة قديمة عمرها 40 عاما يبدو فيها عبد المقصود عبد الكريم، أول يمين ، متأثرا للغاية ، وهو يأكل سندوتش ويداه معقودتان على حقويه من الأمام ، بنصف اللفة ، يمنى على يسرى ، وجهه مثل نجوم البلوز فى خمسينيات أمريكا، بشعر مهوش كثيف وملامح غاضبة ثائرة مع نظارة واسعة وشارب كث غليظ كانت البنات تخاف منه أيام الجامعة "
وفى قصيدة بغداد 1975 ، يورد الشاعر نص خطاب ورد إليه من الشاعر عفيفى مطر يدافع فيه عن نفسه ويلب قصائد لشباب الشعراء وينتقد موقف نجيب سرور ، وفى قصائد أخرى مثل " x2424 " أو " مات الأدمن" نلاحظ لجوء الشاعر إلى وصف نثرى للغاية لبعض التفاصيل الحياتية التى تجرى من حوله ، لحظات مرضه مثلا أو امتعاض ابنه أمام تعطل نظام التشغيل فى أحد المواقع الإلكترونية ، بالإضافة إلى إيراد كثير من الشروح والهوامش من مصادرها وإثباتها فى قصائد الدجيوان بحسب السياق ، وكأن الشاعر يؤكد على ارتباط تحوله نحو السرد النقى لإيصال معنى مباشر بانفلاته نحو المتردم من نثريات الحياة والواقع إذ تتبدى من حولنا
قصائد الديوان لا تخلو من حسية طافحة وولع بتفاصيل الأنثى أيا كان موقعها ، عابرة أو فى صورة فوتوغرافية أو فى الباص ، يقول فى قصيدة بعنوان " المرأة والكلب": "تَتَخَطَّرُ في شَفِيفٍ، لكنهُ غيرُ كاشِفٍ، كمِشْيَةِ شَهوانيّةٍ عَزباءَ. في يدِها “مَجُّ” نِسكافيهَ، وترشُفُ منهُ على تَواتُرٍ، كلُّ خُطوتَين وأُخرَى، في لَهوٍ بريءٍ. لو رَسَمناها بالفَحمِ لبانَ هَيكلُها مِعطاءً، كمنحوتةٍ تقيِسُ الزمنَ ولا تقبَلُ الفَناءَ. ولو فتَحنا بالَها، لتَكَشَّفَ عن ضِحكَةٍ حَمراءَ تلوي قَسماتِها قبلَ الأوانِ"
وفى قصيدة بعنوان "ركبتاى فى السطر الأخير كالمرق" : " كدت أن أهجم اليوم على النساء بالباص ، خاصة الطويلة مدمكة الإليتين، ذات الحجاب، ..... كانت المرأة فى زاوية قرابة 45 درجة يمين الكرسى الموازى لعينى ، بربع الإلية اليسرى مدلوقا فائضا عن حاجة الكرسى، فكأنى أرى من ذيل ذكرياتى "خديجة" وهى تراودنى "