نعم نعشق، نحن المصريين، تونس الشقيق لما لأهلها من خصائص تقربنا كثيرًا، والتواصل بين البلدين يمتد إلى جذور تاريخية قديمة، فعاصمة الفاطميين انتقلت من المهدية فى تونس إلى القاهرة، ونقلت معها الآثار الإسلامية والعمارة الفاطمية المميزة إلى مصر، وبذلك تواصل الفكر الإسلامى المعتدل المستنير من جامع الزيتونة بتونس إلى مؤسسة الأزهر الشريف.
وفى العموم تتصف العلاقات المصرية التونسية بالتميز، فالتشاور بين القيادتين السياسيتين متواصل على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويضاف إلى ذلك أن هناك اندماجًا حقيقيا وشراكة فنية وثقافية بين المبدعين من البلدين فى المجالين الفنى والثقافى.
كمصرى تابعت باهتمام بالغ توديع تونس رئيسها الراحل بجنازة تليق برجل دولة، المحنك الباجى قايد السبسى، الذى ترك بلد ثورة الياسمين على سكة انتقال ديمقراطى نادر فى محيط صعب ومتقلب، ولا أخفى قلقى على مستقبل الأوضاع فى تونس الخضراء.
وعلى مستوى النخب السياسية والثقافية فى مصر دارت حلقات النقاش التى تتعلق بالطريقة التى صار عليها الرئيس التونسى وجعلت بلاده نموذجًا لا يُخشى عليه من الصدام فى المستقبل، لأن الرجل وضع اللبنات الأساسية التى يمضى عليها من سيأتون لاحقًا، وتمكن من تصحيح الأخطاء التى ارتكبت فى السنوات الأولى للثورة فى عهد سلفه، وكادت تؤثر سلبًا على نضج التجربة برمتها، وتجرها إلى دوائر الفشل كما حدث مع الجارة ليبيا.
الباجى قايد السبسى شخصية نادرة فى تونس بقدرته على أن يجسد ماضى الدولة التونسية ومستقبلها بعد الثورة.
كان لوفاة الرئيس التونسى معنى إذ وافته المنية فى الذكرى 62 لعيد الجمهورية التونسية وقبل شهور من الانتخابات، لينتاب أبناء تونس الحزن العميق، وأيضًا لكثير من الشعوب العربية، حيث جاء السبسى فى لحظة فارقة من تاريخ الدولة التونسية وظهر ذلك فى ردود فعل الناس على مواقع التواصل التى اتسمت بالحزن، مشاعر متضاربة عاشتها تونس بعدما اعتبروه امتدادًا للحقبة البورقيبية، نسبة إلى بطل الاستقلال الرئيس التونسى الحبيب بورقيبة.
ورغم حالة الحزن الشديدة التى انتابت التونسيين، إلا أن الإخوان وكالعادة مارسوا هوايتهم بالشماتة فى وفاة السبسى بعد صراعه مع المرض، وذلك لمجرد أنه كان يؤمن بالدولة المدنية، وأيضًا بسبب مجيئة بعد الإطاحة بالإخوان فى تونس، وامتلأت صفحات التابعين لجماعة الإخوان الإرهابية بالشماتة، ولم يفعلوا ذلك فى الخفاء، ولكنهم أعلنوها عبر «السوشيال ميديا»، وكان المثال الفج الذى تمثل فى الإخوانية آيات عرابى ووجدى غنيم والذى قرر رئيس وزراء تونس منعه من دخول البلاد بعد شماتته فى وفاة رئيسه.
لكن هذه الشماتة لن تدخل التونسيين فى حروب كلامية تفرقهم وتبعدهم عن هدفهم الرئيسى، وهو استكمال ما بدأه الباجى قائد السبسى فى بناء تونس الديمقراطية التى تحترم المرأة وحقوق الإنسان والمواطنة، خاصة فى ظل استقطاب حاد من التيار الإسلامى ومحاولة بث الفرقة بين التيار المدنى ليفرق لكى «يسد» من خلال الدخول بتحالفات مشبوهة مع قوى تتبعه ايدلوجيا وغير ظاهرى، كما حدث فى معظم التجارب السابقة خاصة فى ظل وجود عدد كبير من الأحزاب فى تونس، حيث تصل إلى 220 حزبًا، رغم ديمقراطيتها الفتية، ونجاحها فى تجاوز تداعيات الربيع العربى، إلا أن تونس عانت بعد الثورة من صدامات حزبية واسعة، وصل بعضها إلى داخل بعض هذه الأحزاب، خاصة الليبرالية واليسارية منها وهذا سيؤدى بالطبع لأن يجد التونسيون أنفسهم أمام برلمان جديد «فسيفسائى متوزع على أحزاب صغيرة أو متوسطة الحجم، ما قد يؤثر سلبًا على إنشاء حكومات قادرة على الصمود أمام التحديات الاقتصادية».. وهنا سيتدخل التيار الإسلامى كالعادة لمحاولة السيطرة عبر كلام معسول مثل التلاحم والترابط والهدف المشترك وغيرها من الشعارات واستغلال الحالة الاقتصادية الصعبة.
لكن أقلقنى الخبير التونسى فى الشؤون الأمنية والاستراتيجية، مازن الشريف الذى اتّهم، فى تصريح لـ«حفريات»، الأطراف التى تولّت حكم البلاد منذ 2011 إلى اليوم بالتورّط فى تكوين حاضنةٍ شعبيةٍ للإرهاب، وإدخال الفكر المتطرّف، وأيضاً إدخال الأسلحة إلى تونس، التى كانت منيعةً بشكلٍ كبيرٍ طيلة الفترة التى سبقت 2011، رغم كلّ المحاولات لاختراقها، وذلك عبر إقامة «الخيام الدعويّة»، ودخول المتطرّفين فكرياً إلى الوطن.
إنّ الإحصائيات التى اُجريت فى تونس خلال عام 2014، أفضت إلى وجود نحو 400 خليّةٍ إرهابيّةٍ، تضمّ كلّ واحدةٍ ما بين 5 أشخاص و25 شخصًا ينتظمون بشكلٍ عنقودى، لا يعرف أحدهم معلوماتٍ حول الطرف الأعلى منه درجةٍ، وينقسمون إلى قسمين، ينتمى الأوّل إلى تنظيم داعش وهم الأغلبيّة، وينتمى الثانى إلى تنظيم القاعدة، إنّ ما بين 2000 و3000 عنصرٍ إرهابى قد عادوا إلى تونس، ويجب الحذر من المهارات التى اكتسبوها فى صنع المتفجّرات، وفى تقنيات القتال، والتفجير، كما يجب النظر فيمن «دمغجهم»، ومن علّمهم الفكر المتطرّف، وأشرف على تسفيرهم، وعلى تمويلهم، عند تعافى الدولة من هذه الآفة.
بالطبع تهمنى تونس الخضراء أن تظل خضراء ولا يجد هؤلاء المتأسلمون فرصة للقضاء على ثقافة تونس وحضارتها ومجتمعها المدنى والجور على حقوق المرأة فيها.
تونس خضراء بكل مقوماتها ومكانتها ومبدعيها، وإذا وصل هؤلاء للحكم والسيطرة على مؤسسات الدولة التونسية سيجففون كل عروقها الثقافية والحياتية بل وسيأتون بـ«داعش» مرة أخرى، فبرغم الضربات التى تلقاها، وبرغم انهيار دولته المزعومة، فإن تنظيم داعش الإرهابى مازال يبحث له عن موطئ قدم فى بلدان أنهكتها الحروب، وأخرى متعثرة ثوراتها، ليحاول فى مرحلة أخرى، استهداف الدول التى تحاول التعافى من مخلفات ديكتاتورياتها، ورسم مسارها الديمقراطى، كتونس التى لم تشف من ورمه بعد حتى مع النجاح الكبير للأمن التونسى فى محاصرته.
لكنى على ثقة فى تونس وشعبها وثقافتها وحضارتها ومبدعيها أنهم سيجتاوزون هذه الفترة وستخرج تونس كما هى «خضراء» تعاقب هى الإرهاب وتقضى عليه فكريا وأمنيا وسيحفظ الله تونس وشعبها العظيم.