عانت مصر لسنوات طويلة من عدم وضوح التوجه الاقتصادى الشامل للدولة، بين الاشتراكية من جانب والرأسمالية من جانب، النظام المختلط من جانب آخر، وهو ما أثر تأثيرا كبيرا على الأداء الاقتصادي العام، وبشكل سلبي.
ورغم التاريخ الطويل والتقارب الكبير بين كل من مصر روسيا، إلا أن هذا التقارب لم يترجم فى تعاون اقتصادى على نفس مستوى التقارب السياسى فى الفترة الأخيرة، ومازال حجم التعامل التجارى محدود جدا بين البلدين و90% منه لصالح روسيا .
وتكشف التعاملات البينية أن حجم الاستثمارات الروسية فى مصر بلغ حتى الآن ما يقارب 63 مليون دولار، أغلبها بالقطاع السياحى وخدماته، حيث إن 50% من الاستثمارات الروسية هى فى قطاع السياحة، مقابل 18% فى قطاع الإنشاءات، و12% فى مجال الخدمات، و6% فى القطاع الصناعى، و6% أيضا فى قطاع الاتصالات والتكنولوجيا، و5% فى مجال التمويل، و3% فى المجال الزراعى.
هذه الأرقام تكشف مدى ضآلة استثمارات دولة بحجم روسيا الاقتصادى والسياسي بشكل في ظل حجم التقارب المصرى الروسى، والذى يجب أن تسعى الدولة إلى دعم هذا التقارب من الجانب الاقتصادى، وجعل روسيا وجهة أساسية للاستثمارات المصرية ومصر وجهة أساسية للاستثمارات الروسية التى بدأت تتنامى بشكل كبير سواء في المنطقة العربية أو في أفريقيا.
ورغم أن عدد الشركات الروسية المستثمرة بالاقتصاد المصرى بلغ إلى الآن 417 شركة، حسب بيانات الهيئة العامة للاستثمار، إلا أن البيانات الروسية تظهر أن حجم الاستثمارات الروسية بمصر بلغ قرابة 3 مليارات دولار، متضمنة قطاع النفط والغاز، ومنها صفقة بقيمة 1.125 مليار دولار حيث اشترت شركة النفط "روس نفط" حصة تبلغ 30% في مشروع حقل "ظهر" للغاز، وحسب بيانات موقع "ITC Trade"، بلغ حجم التبادل التجارى في 2016 نحو 4 مليارات دولار، منها 3.7 مليار هى صادرات روسيا إلى مصر، مقابل واردات بقيمة 373 مليون دولار.
والمتابع للعلاقات الروسية المصرية خلال الـ50 سنة الماضية، يجدها تضعف وتقوى حسب قوة وضعف العلاقات المصرية الأمريكية، فكلما كانت العلاقات الأمريكية المصرية قوية تضعف العلاقات المصرية الروسية بسبب صراع النفوذ الدائر دائما بين كل من روسا (الاتحاد السوفيتى سابقا) وأمريكا خلال هذه السنوات، وهو ما كان يلقى بظلاله على علاقة مصر بكل منهما.
فالعلاقة كانت على قمة تحسنها خلال حكم الزعيم جمال عبد الناصر، الذي كان في حالة عداء دائم مع أمريكا الراعي الرسمي لإسرائيل، ورغم استمرار هذه العلاقة في بداية حكم الرئيس أنور السادات إلا أنها تدهورت قبالة حرب أكتوبر وبعدها، وخصوصا بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل نهاية السبعينات برعاية أمريكا، والتى بدأ السادات بعدها يتخلى عن العلاقة مع روسيا لصالح أمريكا التى كان يعتقد أن 90% من أوراق اللعبة السياسية في المنطقة في يدها.
كما أن توجهات السادات الاقتصادية كانت تتجه نحو دعم الاقتصاد الرأس مالي والسوق الحر الذي تدعمه أمريكا بقوة، مقابل الاقتصاد الاشتراكى الذي يدعمه الاتحاد السوفيتى (روسيا حاليا)، وهو ما زاد ودعم التباعد بين كل من مصر وروسيا على مدى الـ40 عاما التالية، منذ نهاية حكم السادات إلى فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك التى توجه كلية إلى الغرب وأمريكا اقتصاديا وسياسيا.
لكن، بعد ثورة 30 يونيو بقيادة الرئيس السيسي، ووقوف أمريكا داعمة لجماعة الإخوان الإرهابية، ووقف التعاون العسكرى مع مصر للضغط عليها، توجهت القيادة السياسية بقوة نحو روسيا، رغبة منها في إقامة وبدء علاقة قوية ومستدامة ومتوازنة مع جميع القوى العالمية، وعلى رأسها روسيا التى دعمت ثورة 30 يونيو من الوهلة الأولى، ورسم الزعيم المصري الجديد السيسى والرئيس الروسى القوى بوتين خريطة جديدة للتعاون المصري الروسى اقتصاديا وسياسيا، تقوم على تبادل المصالح المشتركة، ضد مشروعات الهيمنة الغربية بقيادة أمريكا على المنطقة العربية.
وكان من أبرز نتائج هذا التعاون، قيام روسيا بتمويل وإنشاء وتنفيذ مشروع الضبعة النووى المصرى باستثمارات ستصل إلى 23 مليار دولار في نهاية المشروع، وكذلك دعم روسيا بيع حاملتين طائرات فرنسية لمصر كانتا قد صنعت لروسيا، ولكن بعد أزمة جزيرة القرم التى ضمتها روسيا إليها من أوكرانيا وغضب أوروبا وأمريكا لذلك، ألغت فرنسا الصفقة وحصلت عليها مصر، كما شهدت العلاقات المصرية الروسية تحسنا وتقاربا كبيرا خلال الأربع سنوات الماضية في كل المجالات رغم تأثرها نسبيا بعد حادث سقوط الطائرة الروسية في سيناء.
والمطلوب حاليا ومستقبلا أن تغتنم مصر الفرصة وتزيد التقارب مع روسيا ، خصوصا الاقتصادي منه، فهى قطب من أقطاب الاقتصاد العالمي وأحد أفضل 20 اقتصاد فى العالم، ولها قدرات ضخمة، ومكانة سياسية عالمية، وتتمتع بحق الفيتو، كما أنها ليس لها أطماع في مصر بشكل مباشر مثل أمريكا والغرب الذين نشروا خرائط لتقسيم مصر ويدرسونها في معاهدهم العسكرية والسياسية علنا.
ويجب أن يصبح التبادل التجارى أضعاف ما هو عليه حاليا، وأن تخرج مصر من عباءة الاقتصاد الغربى بعدما كانت بمثابة سوق مفتوح لشركاتهم على مدى 40 عاما مضت، خسرت بسببه قطاع الصناعة المصرى الذي بناه الزعيم عبد الناصر، لصالح المصانع الغربية بعد سياسة "الانفتاح" وتحولت مصر لسوق استهلاكى للشركات الغربية، فلا يعقل أن تكون الاستثمارات الروسية في مصر مجرد 63 مليون دولار في ظل هذه العلاقات القوية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة