احتفل اليوم موقع البحث الإليكتروني "جوجل" بذكرى مولد الفنان أحمد زكي، اللفتة رقيقة وهادئة كما هذا النهار الخريفي الساكن، الوديع، المغاير لشخصية النجم الأسمر المتأججة،المشتعلة. هذا الاحتفاء يجلب نوعاً من الحنين والتوق لحضوره القوي على خارطة التمثيل، ويذكرني شخصياً باللحظات الأخيرة في حياته، حيث كان يقاوم الموت حتى أخر نفس.
البطل لايموت، إنه مثل فرسان الساموراي، يمضي دائما مع الريح في ترحال لايعرف الراحة والإستقرار، فيما تبقى الأرض ويبقى الناس العاديون، هكذا حاول أحمد زكي أن يحسم صراعه مع المرض والموت، مؤكداً البعد الأسطوري في شخصيته كفنان وإنسان عندما قال مخففا أحاسيس الأسى التي رآها في عيون عدد من زائريه في أيامه الأخيرة: "إذا لم تجدوني هنا، فستجدوني على الشاشة، أنا سأبقى معكم دائما، حتى لو رحلت".
لم يتحدث النجم اليتيم عن خلود الفن، ولم يطلق الشعارات الحماسية الجوفاء في الهواء استجداء لفلاشات المصورين، وصرخات المعجبين لكنه كان يتحدث من تلك النقطة الغامضة التي انطلقت منها عشرات الأساطير القديمة عن أولئك الأبطال الذين يملأون الحياة بحضورهم المتميز، ثم تأتي اللحظة العجيبة التي يصارع فيها البطل وحشا لايقهر، يختطف الأصدقاء والأحباب ويعطل البرامج اليومية، ويجمد الأحلام عند نقطة مجهولة، إنه الموت الذي أراد جلجامش أن يقهره عبر تسلط غير إنساني، وعندما رأى جثة صديقه انكيدو أصابته الدهشه التي منحته الخلود عبر ممارسته لسلوك التحضر الذي يشبه الفن الآن، فعندما خاف انكيدو من الهبوط إلى الغابة قال له جلجامش نفس الكلمات التي رددها أحمد زكي لنفسه ولأصدقائه وزواره في مستشفى دار الفؤاد غربي القاهرة، لقد قال جلجامش لإنكيدو: لا تتحدث يا صديقي كإنسان ضعيف، إنس الموت، من يمض في المقدمة يحفظ صاحبه، يحم صديقه، فإذا سقطا حفرا لنفسيهما اسماً خالداً.
لم يجد الطفل اليتيم أحمد زكي عبد الرحمن ذلك الرفيق الذي يشاطره رحلة التحدي التي خاضها وحبدا منذ ولد في مدينة الزقازيق بمحافظة الشرقية في 18 نوفمبر العام 1949 وبعد وفاة والده وزواج والدته من آخر تربى يتيما في كنف جده والتحق بالمدرسة الصناعية واهتم بالتمثيل منذ صغره، وعندما أنهى دراسته الثانوية لم يكن يحلم بشئ سوى الحياة عبر تلك الشخصيات التي لا تموت مثل هاملت وعطيل وماندورز، فسافر إلى القاهرة وقدم أوراقه إلى المعهد العالي للفنون المسرحية العام 1970، وعندما حانت لحظة الامتحان فكر الفتى في التراجع لكن شيئاً غامضاً دفعه إلى إستكمال الخطوة التي لم يكن يدرك إلى أين ستنقله، وأمام اللجنة التي ضمت عدداً من كبار أساتذة ونجوم المسرح إرتبك تماماً وأصابه الوجوم حتى سمع اسمه، لقد قال واحد من الكبار الجالسين على المنصة أمامه سكت ليه يا أحمد، هتمثل إيه؟...
نظر نحو سعد أردش وجلال الشرقاوي، وبقية الأساتذة مذهولاً: "هل ينادونني باسمي؟، لقد كان رنين الاسم مختلفاً وكأنني أسمعه لأول مرة، وسألني الأستاذ جلال الشرقاوي: إنت بتجب التمثيل؟، فقلت طبعاً، وطلبوا مني أن أقدم المشهد الذي سيتوقف عليه مستقبلي فزاد إرتباكي".
لقد ذكر أحمد بعد ذلك كثيراً أن لونه الأسمر وشعره الخشن، ومخالفته للصورة النمطية للممثل الوسيم على غرار الطبعات الهوليودية كانت تقف عثرة في طريق أحلامه، وكان يقول لنفسه دائما: كيف لهذا الوجه الأسود الذي يشبه وجه عطيل أن يصبح من بين نجوم الفن، لكنه في هذه المرة سمع صوت ديدمونة يهز كيانه وهي تخاطب عطيل قائلة أن روحه الذكية الوثابة تشع نورًا على بشرته السوداء فتملأ وجهه نجابة وضياء، وانطلق الشاب الريفي يقدم مقاطع من مسرحية عطيل لشكسبير، وبيت الدمية لهنريك إبسن، ولم يعلق أي من أعضاء اللجنة ولم يكملوا معه إختبارات الشفوي والأسئلة المتعلقة بالثقافة الفنية والمعلومات العامة، وكعادة المتشائمين فسر أحمد ما حدث على أنه عدم قبول، واعتبر نفسه من الراسبين، وعندما تم إعلان النتيجة بعد أسابيع قليلة، ذهب من دون حماس للإطلاع عليها، فوجد نفسه في مقدمة الناجحين، وبدأ دراسته الأكاديمية، ثم بدأ العمل في المسرح وقدم أثناء دراسته بالمعهد مسرحية "النار والزيتون" ثم شارك في دور صغير في مسرحية "هاللو شلبي" التي قدم فيها مشهدا مبكرا أظهر قدرته الفائقة على تقمص شخصيات العديد من مشاهير الممثلين أبرزهم الفنان محمود المليجي، ويبدو أن هذا الدور كان أشبه بحبة القمح التي أنبتت حقول الموهبة لدى النجم المتميز الذي برع في تقديم عشرات النماذج المختلفة من البواب إلى الوزير ورئيس الجمهورية، ومن المدمن إلى النصاب والعاطل، ومن اللص إلى الضابط المريض بانتهازية السلطة، وفي ذلك المشهد كان الموت مفتاحاً مأساوياً لتفجير كوميديا مختلفة عن حالة "الفارص" التي غلبت على المسرحية، فقد كانت الشخصيات التي يقلدها أحمد زكي كلها تموت في نهاية المشهد ليسقط أمامنا على الخشبة وهو يتلوى بينما الجمهور غارق في الضحك، لكن الصورة الأقرب إلى شخصية أحمد الحقيقية، هي شخصية أحمد الشاعر الفقير الرومانسي في مسرحية "مدرسة المشاغبين" والتي كانت نافذة تعرف عليه الجمهور من خلالها، كما تعرف عليه عدد من المنتجين والمخرجين، فبدأ يعرف طريقه إلى السينما بعد حادثة أثرت في تكوينه كثيرا، حيث عاد إلى مسككنه ذات مساء بعد انتهاء عمله في المسرح فوجد ورقة صغيرة أسفل الباب تحدد له موعدا في مكتب المنتج وكاتب السيناريو ممدوح الليثي، وطار فرحاً إلى هناك في اليوم التالي ليفاجأ بما لم يتوقعه، أو يحلم به، لقد عرض عليه الليثي بطولة فيلم من انتاجه أمام النجمة اللامعة سعاد حسني، لأن مخرج الفيلم الشاب علي بدرخان رأى ضرورة اسناد البطولة لوجه جديد، فقام كاتب المسرح لينين الرملي بترشيح أحمد بعد مشاهدته له في عرض "النار والزيتون"، وعاد أحمد إلى مسكنه المتواضع وهو يرقص فرحا في الشوارع، وبدأ يستعد للدور الذي سيضعه في صفوف النجوم، وعندما اقترب موعد التصوير، كانت الصدمة قاسية، لقد تم إسناد بطولة فيلم الكرنك إلى النجم المعروف نور الشريف بناء على حسابات انتاجية وأمور تتعلق بالتوزيع والايرادات، وزادت نقمة أحمد زكي على ظروفه وتخيل أن لونه وسماته الشكلية هي التي حالت بينه وبين هذه البطولة، لكنه مع الوقت استعاد اتزانه، وبدا يعمل في مجموعة من الأدوار الصغيرة في السينما حيث شارك في أفلام مثل "بدور" و"أبناء الصمت" ثم "العمر لحظة" و"وراء الشمس" و"شفيقة ومتولي"، وكانت هذه الأدوار كفيلة بإظهار مدى الموهبة التي تسكن أعماق هذا الممثل المختلف الذي ما لبث أن لعبت ملامحه لصالحه أخيرا بعد أن لعبت ضده كثيرا، فأحدث انقلاباً في مقاييس النجم بعد تألقه في تجسيد شخصية عميد الأدب العربي طه حسين في المسلسل التليفزيوني الذي أخرجه الراحل يحي العلمي بعنوان "الأيام".
ولت السبعينايت بأفلامها التجارية ونجومها المستعارين، وأعلن مخرجو الثمانينيات عن مولد موجة جديدة من الواقعية في السينما المصرية، كانت بحاجة إلى أبطال من قلب الشارع المصري، أبطالا يحملون ملامحا عادية تناسب أجواء السينما الجديدة الأكثر تأثراً بموجة الواقعية المباشرة التي اجتاحت إيطاليا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ونجح نور الشريف في تكييف موهبته للمرحلة الجديدة بذكاء تميز به عبر مشواره الطويل، في الوقت الذي تراجعت في أسماء أخرى مثل محمود ياسين وحسين فهمي لصالح النجوم الجدد وفي مقدمتهم أحمد زكي الذي أصبح المشاهد على يديه يتقبل البطل الأسمر صاحب الشعر القصير، وتأكدت نجومية أحمد زكي مع سينما محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، وأصبح الممثل المفضل الذي شارك في أفلام معظم مخرجي هذه الموجة في ذلك الوقت والتي بحثت عن أبطالها بين الملايين الذين يعيشون على هامش المجتمع وساعدت ملامح أحمد زكي على أن يكون وفياً للبسطاء والفقراء وأصحاب الأحلام المحطمة، كما ساعدته على أن يلتقط الشخصيات التي يؤديها من أكثر المناطق إنسانية وإعتيادية وأكثرها تأثيراً في الآخرين.
لكن هل ضاعت سنوات السبعينيات من عمر أحمد هباء، في حين منحته الثمانينات مجده الذهبي، وشهدت التسعينات تباطؤه وتراجعه الكمي لصالح الكيف، بحيث لم يستطع أن يعبر الألفية الجديدة إلا بالقليل من الأفلام والكثير من الأحلام؟.. يرى الكثير من النقاد، كما رأى أحمد نفسه أن سنوات السبعينيات التي أعقبت تخرج أحمد في المعهد هي أكثر السنوات زخماً من حيث التأثير في تكوينه الفني بعد مرحلة الطفولة، سواء من حيث بحثه عن دور يليق بطاقاته الكامنة، وسواء من حيث الحراك الديناميكي الذي شهدته مرحلة حكم الرئيس أنور السادات من نصر أكتوبر إلى إعلان الانفتاح والردة على ثورة يوليو والتشهير بقائدها في موجة ما يسمى بأفلام "مراكز القوى"، ثم بداية مرحلة نقد الانفتاح في أكبر حملة نقد سياسي واجتماعي قامت بها السينما، هذا بالإضافة إلى غليان الشارع المصري العام 1977 وتأجج شعور المصريين أن العهد الناصري ترك فيهم عزة نفس كبيرة وفي مثل هذه اللحظات تتفجر النماذج البشرية وتتألق الشخصيات وتنتشرالنكات، وتزدهر جلسات الدردشة والتقد السياسي على المقاهي التي استمد منها أحمد زكي مخزون انفعالاته، ونماذجه الانسانية الفريدة وحمل منها معيناً لا ينضب من القدرة على تجسيد المعنى بحركة بسيطة دالة ومعبرة في آن واحد وعبر أحمد زكي عن أبناء جيل الثمانينايت والتسعينيات، وأصبح أحمد زكي كممثل ترمومتر النجوم الموهوبين في الأداء الدرامي في السينما والذي لا يختلف اثنان على موهبته، حتى أن النجم الكبير نور الشريف عندما سئل ذات يوم عن الفارق بين موهبته وموهبة أحمد قال: إن موهبتي سبعون بالمائة، أستكملها بالدراسة والجهد، أما موهبة أحمد فهي كاملة مائة بالمائة، هكذا تفوق أحمد زكي على ملامحه بفيضان موهبته التي حطم بها الصورة التقليدية للنجم الوسيم كما رسختها هوليوود وتوارثتها السينما المصرية.