فى المقالين السابقين، شرحنا بشكل مبسط، ووفقا لوثائق تاريخية، نفوذ رجال الدين «الكهنة» فى العصر الفرعونى، وتحديدًا فى الدولة القديمة، التى تبدأ من الأسرة الأولى وحتى السادسة، وهى الفترة التى شهدت بناء الأهرامات، وفى المقال الثانى، تناولنا نفوذ رجال الدين فى الدولة الحديثة، وذكرنا مثالا صارخا عن أطماع الكاهن «الأكبر» فى حكم مصر، عقب وفاة الملك تحتمس الأول.
اليوم نتناول دور رجال الدين ونفوذهم فى العصر البطلمى، فمن المعروف أن الإسكندر الأكبر احتل مصر عام 332 قبل الميلاد، وزار معبد بتاح فى ممفيس، ثم معبد أمون فى واحة سيوة، وهو ما لقى هوى بالغا فى نفوس رجال الدين «الكهنة» واعتبروا الإسكندر الأكبر، المخلص من نير الفرس، الذين كانوا يحتلون البلاد، وبمرور الوقت نصب رجال الدين أنفسهم، حماة الأشياء المقدسة القديمة، أمام الشعب، ولهذا لم يكن يسمحوا بإدخال أى تغيير، خاصة على المظاهر الشكلية للديانة، لذلك رفضوا مواكبة الحداثة التى أدخلها الإغريق، واعتبروها رجسا من عمل الشيطان، وأن بناء المعابد، لابد أن يسير وفقا للنهج الفرعونى السحيق، مثلما حدث فى معابد دندرة وإسنا وإدفو، على سبيل المثال، لا الحصر.
حتى النقوش والمناظر على الجدران، تسرد نفس مناظر المعابد الفرعونية القديمة، بذات الطقس الدينى، بدءًا من مناظر الملك وهو يقدم القرابين للآلهة، ومرورا بوقوف آلهة أخرى خلف الملك، لكن الاختلاف الوحيد بين النقوش فى عصر الأسرات الفرعونية، وذاتها فى العصر الإغريقى، أن الموضوعات صارت أكثر استطالة وتنوعا فى العصر الإغريقى.
لكن السمة الأبرز لرجال الدين «الكهنة» المصريين، فى العصر البطلمى، أنهم استمروا فى انتزاع السلطة والنفوذ، وجمع المغانم، وهناك واقعة مهمة، تؤكد كيف كان الكهنة يهددون الملوك بلعنات الآلهة، إذا ما رفضوا تلبية رغباتهم، عندما زار بطليموس معبد مقاطعة «منديس» بالدلتا، طلب الكهنة منه إعفاء مقاطعتهم من الضرائب، ومنها الضريبة المفروضة على مصر كلها، حينذاك، وتحمل اسم «ضريبة المعابر».
وساق الكهنة، مبرراتهم لمطالبة بطليموس، إلغاء الضريبة، بأن كل موارد مدينتهم، سواء الذاتية، أو القادمة لها، هى ملك إلههم، ولا يجب أن يقتسم أو ينازع أحدا، موارد الإله، ثم لوحوا بتهديد مبطن، قائلين: «الإله تحوت أصدر مرسوما لملوك المستقبل، بأن يعملوا على توفير القرابين، للإله الكبش الحى، فإذا ما أنقص من هذه القرابين، فإن مصائب لا آخر لها، ستنتشر بين الناس».
هنا يتبن كيف أن رجال الدين يوظفون الدين وسلاح «الفتاوى» لبث الخوف والرعب فى قلوب من يحاول أن يقترب من مكتسباتهم، السلطوية والسياسية، وجمع المغانم، باعتبارهم الوسطاء بين الإله والعباد.
ومن أجل مصلحتهم، والمغانم التى يحصدونها، أكد كثير من المؤرخين والباحثين فى ديانة مصر القديمة، أن رجال الدين «الكهنة» فى العصر البطلمى، قدموا كل الولاء والطاعة، والخنوع والخضوع، للحكام البطالمة، أكثر من الحكام الوطنيين، كون أن البطالمة، قد أنفقوا ببذخ شديد على المعابد، لشراء ولاء رجال الدين، لإدراكهم أن التقرب من قلوب المصريين لا يأتى إلا من البوابة الدينية، والمتحكم فيها، الكهنة.
وتساءل المؤرخون، كيف لأقدم هيئة دينية على كوكب الأرض تقدم كل الولاء والطاعة لملوك أجانب، لمجرد أنفقوا عليهم ببذخ، أكثر من الملوك المصريين..؟!
وانطلاقا من هذا السؤال، يتبين بجلاء، أن رجال الدين، ما هم إلا تجار، سلعتهم، الفتاوى، والإيحاء بأنهم يملكون صكوك الغفران، ومفاتيح الجنة والنار، فيجب طاعتهم، وعدم مجادلتهم، واعتبارهم المالكين الحصريين للعقيدة..!!