بعد مرور عام من الهجوم الذى استهدف مسجدين في مدينة "كرايست تشيرش" النيوزلندية، يبقى الحديث عن هوية الإرهاب في صدارة أجندات العديد من منابر الإعلام الدولية، خاصة وأن الحادث يمثل فارقة مهمة، باعتباره استهدف مسلمين بينما كانوا يصلون داخل مساجدهم، ليصبح هذا الهجوم بمثابة نقطة تحول جوهرية في محاولات إلصاق أعمال العنف بالدين الإسلامي، والتي بلغت ذروتها فى أعقاب أحداث 11 سبتمبر، عندما دأبت الولايات المتحدة، على وصم الإسلام بالإرهاب، سواء عبر الإعلام، أو من خلال السياسات التي تبنتها، والتي حملت في طياتها صبغة طائفية، من خلال وصف العمليات العسكرية الأمريكية، التي استهدفت دولا إسلامية بـ"الحرب المقدسة"، لتتحول الحرب المزعومة على الإرهاب إلى حرب على الإسلام.
إلا أن هجوم نيوزلندا يمثل انقلابا في المعايير، فمرتكب الجريمة كان مسيحيا، يحمل أصولا أسترالية، ليطرح العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت الأعمال الإرهابية، والكيفية التي يتم التعامل بعا معها، ترتبط بالدين أم أنها تحمل أهدافا أخرى ترتبط بالسياسة، خاصة وأن الحديث عن صراع الحضارات بدأ منذ بداية التسعينات، تزامنا مع نهاية حقبة الحرب الباردة، التي أعلنت انتصار المعسكر الغربى، بقيادة الولايات المتحدة، وانهيار الاتحاد السوفيتى.
ولعل الخروج بنظرية "صراع الحضارات"، والتي أرساها الباحث الأمريكي الشهير صموئيل هنتنجتون، كانت بمثابة محاولة للبحث عن صراع جديد، يمكن من خلاله أن تحتفظ واشنطن بهيمنتها، وهو الأمر الذى تحقق بعد ذلك عبر الإفراط في استخدام القوة العسكرية، لتحقيق الأهداف الأمريكية بالقوة، تحت ذريعة الحرب على الإرهاب، في الوقت الذى تمددت فيه أنشطة التنظيمات المتطرفة، بل وتوسعت طموحاتها، وهو ما بدا بوضوح في ظهور تنظيم "داعش"، الذى سعى لتأسيس دولته الخاصة، عبر الاستيلاء على مساحات شاسعة من الأراضى، بل والأكثر من ذلك فقد سعى إلى مهاجمة دول الغرب في الداخل، فيما يمثل طفرة كبيرة في أنشطة مثل هذه التنظيمات.
ولكن يبقى الهجوم على مسجدى "كرايست تشيرش" هو نتيجة ملحة لمعطيات سياسية جديدة على الساحة الدولية، أبرزها صعود تيارات اليمين المتطرف وبزوغ نجمها في العديد من دول الغرب، وما تحمله أجندتها من خطاب عدوانى تجاه العديد من القطاعات داخل المجتمعات، في الوقت الذى يتزايد فيه الغضب تجاه المهاجرين القادمين من مختلف دول العالم، بسبب الدور الذى يلعبونه في مزاحمة المواطنين الأصليين في فرصهم الاقتصادية، أو حتى التهديدات الأمنية الناجمة عن تسلل عناصر متطرفة.
الهجوم على المساجد في نيوزلندا، ربما ليس الأول من نوعه، وإن كان هو الأكبر من حيث تداعياته، حيث أنه جاء بعد هجمات أصغر حجما ونطاقا استهدفت مراكز لتجمع المسلمين واليهود، سواء في أوروبا الغربية أو الولايات المتحدة، إلا أن التعامل الحكومى من قبل رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن، كان مختلفا إلى حد كبير، ليس فقط على خلفية التضامن الكبير الذى أبدته مع الضحايا وأسرهم، وإنما عبر وصفها الصريح للهجوم بـ"الإرهابى"، على عكس الحكومات الأخرى، ومنابرها الإعلامية، والتي لجأت إلى استخدام تصنيفات أقل حدة، على غرار أعمال عنف أو قتل أو ما شابه.
نيوزلندا أدركت حقيقة مفادها أن "الإرهاب الأبيض" يبقى الخطر الداهم الذى يواجه أوروبا والغرب، والذى لا يقل خطورة عن الميليشيات المتطرفة القادمة من الشرق، خاصة مع تقدم تيارات اليمين المتطرف تقدمها نحو مقاعد السلطة، لتصبح القارة العجوز في مواجهة تهديد مضاعف، جراء مخاوف تسلل المتطرفين من الشرق بين موجات المهاجرين المتدفقين نحو دول الاتحاد الأوروبى، بالإضافة إلى النزعات المتطرفة التي ثارت بين قطاع كبير من مواطني تلك الدول.