لقد صار الحصول على المعلومة سهلا، وأصبح اكتساب المعرفة متاحًا، يحدث ذلك بأيسر الطرق، وذلك بقدر فائدته له ضرره، فالاكتساب السهل للمعرفة لا يعكس بالضرورة "ثقافة حقيقية"، لأن الثقافة هى تحول هذه المعلومات إلى سلوك ووعى ورؤية واتساع أفق وتفكير علمي، وطالما ذلك لم يحدث، فلا قيمة للمعلومات إلا لو أننا سنشارك فى مسابقات تثقيفية فنردد مثل البغبغان ما نحفظه.
كل ما يثار حولنا الآن ممن يطلق عليه "ترندات" وقضايا مثارة فى الشارع أو الوسط الثقافى أو الفنى أو غير ذلك، هو نتاج مباشر للبعد عن الثقافة بالمعنى الفعلى، لقد صرنا نعرف أكثر لكننا لا نفكر فيما نعرفه ولا نتأمله ولا نناقشه أصلا، لذا لم تتحرك أفكارنا للأمام بل عدنا مرة أخرى إلى "سلفية فكرية" غريبة.
وأسوأ أنواع هذه السلفية، أننا لم نعد نؤمن بالتخصص ولا نسعى لمعرفة رأى أصحاب الخبرة، كلنا يفتى فى كل شيء، فى الفن والطب والدين والسياسة وغير ذلك، وهنا وجب القول إن الحديث فى مثل هذه الأمور متاح، ولكن الإيمان بأن رأيى هو الصواب فقط هو ما ما يدل على المعاناة الفكرية التى وصلنا إليها.
الأمر الثانى من هذه السلفية الفكرية، الاكتفاء بالقشور، فيكفى العنوان لكى أشكل رأيا بالقبول أو الرفض، إن قلبت أصبحت محاميا عن الموضوع وإن رفضت أصبحت قاضيا يطلق الأحكام ويسجن المخالفين.
الأمر الثالث من السلفية الفكرية تمثل فى السير وراء الترند، صار يحكم يومنا، نستيقظ فى الصباح، نستقى من تليفوناتنا ما يتحدث فيه العالم، وقبل أن نفتح أعيينا نكون قد كتبنا "بوست" وضغطنا بكل أريحية على زر "النشر" ثم عدنا لنكمل نومنا مرة أخرى.