فيلمان أمريكيان جديدان (2021) يثيران الجدل ويتصدران التريند جماهيريًا ونقديًا بشكل لافت ومتجاوز حدود الدهشة: "سبايدرمان: لا عودة للديار" (يُعرض حاليًا فى صالات محلية وعالمية) إخراج جون واتس، "لا تنظر إلى الأعلى" (يُعرض على نتفليكس) تأليف وإخراج آدم مكاى، كنت قد قررت تفادى الكتابة عنهما، لأننى غالبًا لا أشعر بارتياح فى متابعة التريند، ثم تراجعت عن قرارى بعد مشاهدة الفيلمين وإدراك ذكاء خاص فى صناعة محتوى ممتع وذكى.
يتشارك الفيلمان فى ثلاث نقاط رئيسة، هى: أولًا، حصولهما على حضور جماهيرى كبير ونسبة مشاهدة عالية، فالفيلم الأول كسر حاجز وباء كورونا الذى أثر فى سوق العرض وهدده بدرجات متفاوتة، حيث أصبح حاضر صالات العرض لا يشبه حالها فى الأمس القريب، أما الفيلم الثانى والذى شاهده الجمهور وفق أساليب المشاهدة المستحدثة عبر منصات ومواقع متخصصة مختلفة، زادت بعد انتشار الوباء، وإن كانت هذه المنصات بدأت منذ فترة قبل كورونا، وأرضت قطاعًا ما من جمهور بات يُفضل المشاهدة المنزلية الهادئة، بعيدًا عن توتر طقس الفُرجة الجماعية وسط جمهور صاخب.
النقطة الثانية تبرز الموضوع التكنولوجى فى الفيلمين، بمعنى أن التكنولوجيا هى عنصر رئيسى فى الحكاية التى احتوت على أبعاد أخرى منها الاجتماعى والإنسانى والسياسى، ما يرسخ للفكرة الأصيلة بأن السينما هى ابنة التكنولوجيا بلا جدال، يكفى القول مثلًا بأن أشهر المخترعين فى العالم هو "توماس اديسون" الذى ارتبط اسمه بالاختراعات الأولى للسينما، وهذا يعنى أن السينما إذا حاولنا أن نراها من خلال أى تعريف علمي، فهى فى صورتها الأولى مجرد "اختراع".. إختراع لنقل مقتطفات وصور من الحياة إلى الشاشة البيضاء، ثم بدأ هذا الاختراع يبلور صيغه وأشكاله الفنية الخاصة فى الأفلام (روائى طويل، روائى قصير، تسجيلى، لقطة، مشهد.. وهكذا)، من خلاله أصبحت السينما مجمع للفنون استوعب الموسيقى والأدب والفنون التشكيلية، وكذلك علومًا مثل الكيمياء والفيزياء بالإضافة إلى الجزء التجارى والخاص بالترويج والتسويق.
من هنا فإن السينما ولدت مع الثورة الصناعية ثم بدأت تكتب هويتها، أديسون إكتفى بالاختراع التكنولوجي، لكنه لم يصبح مخترعًا للسينما، كما يفضل أن ينسب إليه الأمريكان، لأنه لم يضف إليها البعد التجارى الذى أضافه الأخوين الفرنسيين (لويس وأوجست لوميير)، وهو البعد الذى يتجلى فى فيلمينا هنا، ويبين كيف تقدم السينما الخيال الإنسانى بمقاييس يحتاجها الجمهور، وأن لا أحد يستطيع أن يوقف عجلة التكنولوجيا، فتحلق الأفلام فى فضاء الخيال راسمة حياة لم تعشها البشرية بعد، عوالم غريبة لا تتوقف عند هذين الفيلمين، بل إنهما امتدادًا لأفلام سابقة وعديدة من نوعية أفلام الكواكب، الأطباق الطائرة، سيطرة الآلة على الإنسان، المسوخ، الوحوش الكاسرة وغيرها.
وحين نتحدث عن التطور التكنولوجى فى السينما، لابد أن نخص بالذكر السينما الأمريكية، السينما الأكثر تواصلًا بل وإندفاعًا وتحقيقًا لذروة التطور التكنولوجى، محققة أعلى درجات الافتتان والمتعة البصرية القائمة على الخدع السينمائية والمؤثرات البصرية المذهلة، بغض النظر عن الاختلاف أو الاتفاق مع ما تقدمه من موضوعات.
أما النقطة الثالثة فتتعلق بالحاجة الجماهيرية لهذه النوعية من الأفلام، ربما لسبب قوى يتعلق بالنزعة البشرية نحو الحياة، نزعة أصيلة لدى الإنسان تأبى على الاندثار، والتهيؤ النفسى للخروج من الأزمات بأحلام تستدعى أبطالًا خارقين، أو بالتمرد إذا لزم الأمر، وهو ما توفره أفلام تمنح الفرصة لحياة أكثر حيوية، سخية بالخيال والجمال.
فيلم مثل "سبايدرمان.. لا عودة للديار" ﺇﺧﺮاﺝ: جون واتس، ﺗﺄﻟﻴﻒ: كريس ماكينا، إريك سومرز.. الفيلم الأحدث من سلسلة الرجل العنكبوت، يُعطى الجمهور فرصة للتماهى مع بطل يتمناه ويرغب أن يتمثل به، إن "سبايدر مان" ترسخ بشكل أو بأخر فى الثقافة الشعبية، كامتداد لأسلافه فى هذه السلسلة، حيث الرجل العنكبوت هو البديل للبطل الشعبى فى الحواديت القديمة، يواجه الأشرار ويحمى البشرية من شرورهم، لكنه فى هذه المرة فاق التوقعات، ليس فقط بسبب عودة الممثل البريطانى توم هولاند لتجسيد شخصية سبايدرمان، أو بسبب أسماء نجومه الأخرين: زيندايا، انجيلو بروكس، جايكوب باتالون، ماريسا تومي، جيمى فوكس، بيندكت كامبرباتش، ألفريد مولينا، أو حتى قصته التى تكشف أن بيتر باركر، الرجل العنكبوت هو شخصية مترعة بإنسانيتها ودراميتها، خصوصًا حين يتورط فى أحداث تكشف هويته السرية، وتُعقد أموره بجريمة قتل متهمًا فيها بخلاف اتهامه بنشر الفوضى، أو عناصره الفنية والتقنية التى صنعت عملًا بصريًا شديد التميز.
بل بسبب كل هذه التوليفة مجتمعة، إضافة إلى جوانب أخرى تستحضر السؤال: هل البشرية محتاجة إلى شخصيات خارقة تنقذها فى هذا الزمن؟ هل بات العالم محتاجًا إلى شخصية خارقة مثل "الرجل العنكبوت"، شخصية وُلدت فى كتب "كوميكز" وانتقلت إلى الشاشة الكبيرة فى سلاسل بصرية؟ هل هذه الأفلام يمكنها أن تعوض المشاهدين بعضًا من رغباتهم الدفينة (واللاوعية، ربما) فى عالم أجمل وأفضل وأهدأ يحلمون بالعيش فيه؟!
فى تصورى أن نموذج "سبايدرمان" يحقق للناس حلم القوة المطلقة، وهذه القوة هى من التيمات التى لا تخيب أبدًا، وإلا ما كانت استجلبت هذا الإقبال الجماهيرى الهائل والمتباين عُمريًا على الفيلم، وتحقيقه أعلى الإيرادات مصريًا وعالميًا، بما يتجاوز المليار دولار فى زمن كورونا.
كورونا فتحت أبواب عديدة للجدل العلمى، وأصبح الوباء الكونى يهدد العالم كله، وكما نعلم جميعًا أنه تعددت أفلام نهاية العالم فى السينما الأمريكية، لكننا نتابعها فى فيلم "لا تنظر إلى أعلى/ Don't Look Up"، بشكل مختلف، ينتمى إلى الكوميديا السوداء وتتعاطى حكايته مع موضوع جاد ومؤلم بسخرية، العالم بأجمعه الآن يقف على الحافة فى مواجهة وباء لا يعرفون نهايته، وكذلك تغيرات مناخية تهدد الكرة الأرضية، والفيلم يدور فى فلك الأسئلة والقلق، ويكشف الكثير من المستور والمكشوف أصلًا.
من العلامات المثيرة فى الفيلم، نجومه وأبرزهم: ليوناردو دى كابريو، جينيفر لورانس، كريس إيفانز، أريانا جراندي، تيموثى شالامي، هيمش باتيل، ماثيو بيري، ميريل ستريب، كيت بلانشيت، جونا هيل، بينما تحكى قصته عن عالمين فلكين يحاولان أن يدفعا الجميع كى ينظروا إلى أعلى، حتى يشاهدون الحقيقة الموجعة التى تنتظرهم ويتخذون حذرهم، إذ عرف هذان الفلكيين أن ثمة نيزك يقترب من الأرض وسيصطدم بها بعد ستة أشهر، لكن لا أحد من المسئولين يهتم، لا رئيسة الدولة التى تكترث فقط لمصالحها وبقاءها فى منصبها، ولا الإعلام الذى يسخر من التحذيرات ويروج للقصص التافهة، وحتى وكالة ناسا مكتوفة الأيدي.
الفيلم لا يسخر فقط من نهج النظام الأمريكى وتورطه فى فساد رأسمالى واضح، من السياسة والإعلام والتكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعى والحياة الأمريكية السخيفة، وإنما يقدم محاكمة لهم جميعًا، مسئولون وإعلام ومواقع التواصل الآجتماعي، لهؤلاء الذين تهربوا من مسئولياتهم واختبأوا فى غواصة، فرارًا من النيزك الذى اصطدم فعلًا بالأرض، لكنهم لم ينجوا من هجوم كائنات غريبة ظهرت بعد فناء الأرض، بينما الفلكيين صاحبا الإنذار عادا إلى حياتهما العائلية فى حالة من حالات السكون، معتصمون بلم الشمل والاحتماء بالحب فى مواجهة الفناء.
الفيلمان إذن على تباين موضوعاتهما وتقارب بعض المشتركات بينهما، هما علامة جديدة فى سينما متأثرة بمحيطها الإنسانى والكوني، بما يؤكد أنه لا خطوة للوراء وإنما هناك حاجة وضرورة للمزيد من التأمل على كل المستويات فى السينما والحياة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة