حازم حسين

إعادة الاعتبار للآثار.. والحاجة إلى "براندينج" لمقاصد مصر

الإثنين، 03 يناير 2022 04:06 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

سواحل تقارب 3 آلاف كيلو متر، وتراث ثقافى يتجاوز 5 آلاف سنة، يشمل عصورًا حضارية لامعة ويمتدّ باتساع جغرافيا البلد، وقدرات اقتصادية ولوجستية جيدة وآخذة فى النمو، وما تزال التطلُّعات أكبر من المُتحقق، وما يُمكن أن توفّره السياحة لمصر يفوق تخيُّلاتنا جميعًا.

فى العام 2019 - وقبل جائحة كورونا - استقبلت مصر أكثر من 13 مليون سائح، فى أول تعافٍ حقيقى بعد آثار يناير 2011 وما تبعها من توتُّر مُتّصل إلى حدود العام 2016. اقتربنا وقتها من الذروة المُتحقِّقة فى 2010 عند مستوى 14.7 مليون سائح. اليوم يشهد القطاع نموًّا ملموسًا لكل العاملين فيه، وربما نُحقّق مع نهاية العام الجارى مُعدَّلات تدفُّق قريبة إلى تلك الحدود. الحقيقة أن ما أنجزناه باستقرار الأوضاع السياسية والأمنية، وانعكاساته على السياحة بين 2017 والآن، يبدو مُهمًّا وداعيًا للفخر والأمل، لكن يظلّ المتاح أكبر، وما يُمكن أن ننجزه أهمَّ وأعمق أثرًا.

لسنا فُقراء إطلاقًا فى قدرات الجذب، ولا تنقصنا البنية التحتية ولوجستيات خدمة القطاع. لكن وفرة الموارد والإمكانات تخلق زحامًا قد يُعطِّل عن بلوغ المقصد. بحسب الأرقام والمؤشِّرات تقدَّمت علينا دول أصغر وأقل تاريخًا وتنوّعًا وحضارة؛ لتجذب أعدادًا أكبر وتُحقِّق موارد أعلى تنسيبًا إلى إجمالى الدخل. مثالاً تجتذب تونس قرابة 10 ملايين سائح بنحو 18% من الناتج المحلى، وإسبانيا 83 مليون سائح بـ15% من الناتج. بينما لا تتجاوز النسبة 12% من الناتج الإجمالى لمصر.

السنوات الأخيرة شهدت طفرة واضحة، مع حالة زخم بالمقاصد الشهيرة، وإرساء ركائز جديدة لنموّ السياحة الشاطئية على محورى المتوسط والبحر الأحمر، وإعادة تأهيل المناطق القديمة ورفع كفاءة بِنية القطاع ولوجستياته. وإلى ذلك شهدت المكوّنات الثقافية نموًّا وتطوّرًا لم تعهده من قبل. خلال 2020 نموذجًا اكتمل متحف الحضارة المُفتتح جزئيا منذ 2017 بموكب المومياوات وتدشين قاعة العرض الرئيسية، واختُتم العام بحفل طريق الكباش وإعلان الأقصر المتحف المفتوح الأكبر بالعالم. وبينهما أُعيد فتح مقبرة رمسيس الأول ومعبد إيزيس بأسوان وأولى مراحل ترميم كباش معبد "آمون رع" بالكرنك، والمقبرة الجنوبية للملك زوسر بسقارة، ومنطقتا الحواويش والشيخ حمد بسوهاج، ومتحفا الصالتين 2 و3 بمطار القاهرة.

شهد العام الماضى أيضًا افتتاح 3 محطات من رحلة العائلة المقدسة، وترميم قُبّة الإمام الشافعى، ومسجد الطنبغا الماردانى، وقبة قانصوة أبو سعيد، وأسبلة وأضرحة الشرفا والأمير شيخو ورقية دودو ومصطفى سنان وحسن أغا كوكليان وواجهة حمام بشتاك، ووكالة الجداوى بالأقصر، وأول مصنع للمُستنسخات الأثرية، وإدراج المتحف المصرى بالقائمة الأوّلية لمواقع التراث العالمى، فضلاً عن اعتماده على لائحة المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم "إيسيسكو" إلى جانب قصر البارون وقلعة شالى فى سيوة، ونقل وترميم 55 ألف قطعة أثرية ضمن معروضات المتحف الكبير، واستعادة أكثر من 5 آلاف قطعة من الخارج، وإحباط تهريب نحو 900 قطعة، والمشاركة فى معارض مُهمَّة بالسعودية ودبى والولايات المتحدة، وتحقيق اكتشافات بارزة بينها مدينة "صعود آتون" ومنطقة جنائزية وحطام سفينة حربية بطلمية بالإسكندرية، ونقترب من افتتاح متحف محمد على فى شبرا، ومتحف عواصم مصر بالعاصمة الإدارية، والمتحف المصرى الكبير بمنطقة الأهرامات، ومشروعات ومزارات أخرى خلال 2022.

إلى ذلك، تتضمَّن القائمة أعمالاً وبرامج نوعيّة، مثل تطوير هضبة الأهرام، ودفعًا مُطّردًا باتجاه توسعة قاعدة القطاع وتحديث هياكل عمله بالمدن الساحلية، واتّصالاً مُمنهجًا للاكتشافات وأنشطة البعثات الأثرية. السياق العام يُشير إلى حالة زخم فِعليّة، ونشاط حقيقى يتَّصل باستكشاف مناطق القوة وتعظيمها، والسير باتجاه مسالك وآفاق أبعد وأكثر ثراء. رؤية الدولة تتّسع على مجال لا حدود له، لكن ربما تكون رؤية القطاع والعاملين به فى حاجة ماسّة للتطوير. هل ينحصر الأمر فى الاكتشاف والتطوير واستقبال الزوار بالآليَّة نفسها؟ أم يجب أن نُعيد رسم خريطة الاستهداف وبرامج التسويق؟ وهل الأصح أن تستمر مصر مقصدًا يُباع للجمهور حزمةً واحدةً، أم يتعيَّن علينا تفكيكه والنظر إلى عناصره من موقع الميزة النسبيّة لكل مُكوّن وما يوفره من فرص إشباع تتوافق مع جمهور متنوّع وطلب عريض؟

أصبحت مصر علامةً سياحيّة مُسجَّلة عالميًّا، وهذا فعل الحضارة وميراث العقود الماضية، لكن رُبّما يكون علينا السير إلى الأمام خطوات، والانتقال بها من حيِّز العلامة إلى باقة من العلامات. بوضوح أكبر نحتاج إلى خطَّة تسليع شاملة لمُكوّنات السوق السياحية، وابتكار (Branding) يُراعى أوَّلاً طبيعة كل منطقة ومجال سياحى، ثم يستهدف جمهورًا مُحدَّدًا وفق سياقه الاجتماعى والاقتصادى وحدوده الثقافية وتفضيلاته فى المعرفة والترفيه. لا مانع إطلاقًا من أن تكون الأقصر علامة مُستقلَّة، والأهرامات ومتحفها الكبير، والقاهرة التاريخية، ورحلة العائلة المقدسة، وسواحل البحر الأحمر، والعلمين الجديدة ومقاصد المتوسط، وشرم الشيخ وسيناء، وغير ذلك من عناصر المشهد السياحى التى يُمكن أن يُصبح كل منها "ماركة" رائجة، بل يُمكن تقسيم كل مُكوّن إلى مستويات ودوائر عمل لكل منها عناصر قوَّة وحزمة خدمات خاصّة، لنتوسَّع فى الاستهداف من الأسواق التقليدية، إلى شرق أوروبا وآسيا وأفريقيا والكومنولث البريطانى واتحاد الكومنولث الروسى.

بعض تلك الأفكار موجودة بصورة من الصور حاليًا، لا سيَّما محاولات استهدافنا لأسواق جديدة. لكن حتى الآن ما نزال أسرى دوائر نفوذنا القديمة، ومحطَّة وصول لأسواق أخرى تنشط شركاتها فى الوساطة وبيع البرامج السياحية، إمَّا إلى جانب برامجها أو بصورة مُستقلَّة، المهم والخطير أنها تُحقِّق أرباحًا لصالح اقتصاداتها، بينما يتعيَّن أن تتدفَّق تلك المكاسب للسوق المصرية. تطوير الرؤية الوطنية للتعامل مع السياحية سيسمح بمزيدٍ من تنويع الموارد، وتطوير المناطق والمُرتكزات وفق أفكار عمليَّة واحتياجات فعليَّة مُرتبطة بالطلب، وجذب أسواق وثقافات ونوعيَّات جديدة، وإتاحة خريطة زيارة وتسعير عظيمة الثراء والجاذبية والإغراء، وقادرة على الجذب المُتكرِّر ورفع مُعدلات التردُّد، بدلاً من انحصارها فى حيِّز المقصد الواحد ووجهة "الزيارة الوحيدة".

أعادت مصر - بينما تتحرَّك باتجاه جمهوريَّتها الجديدة - الاعتبار للآثار والثقافة وتراثنا المادى الثرى. نحتاج الآن إلى أن نستكشف الأسواق الخارجيّة ومُتغيّراتها. الشقيقة تونس نحو 15% تقريبًا من تعدادنا ومساحتنا، وأقل من ذلك فى تراثها ومناطق جذبها، لكنها تقارب أعداد سائحينا سنويًّا. إسبانيا نصف المساحة والتعداد وثمانية أضعاف الزوار. لا أفهم الأمر إلّا فيما يخص فارق التسويق والقدرة على "البراندينج" وبيع المقاصد وبرامج الزيارة. نملك من القدرة والمعرفة والطموح وفاعليّة الإنجاز خلال السنوات الأخيرة ما يُعزِّز آمالنا فى مُضاعفة الأعداد، وإسهام السياحة فى الناتج الإجمالى، وفى قوَّة العمل والداخلين إلى سوقه. نملك ما ساعدنا على الإنجاز فى كل الملفات، وتذويب أزمات ومتاعب أكبر فى العشوائيات والمعيشة والنموّ وتنوُّع هياكل الإنتاج وإدارة النقد والمالية العامة، ونملك أيضًا ما يكفى لإحداث طفرة سياحية مُمكِنَة ومُستحَقَّة. لدينا السلعة الرائجة، ولديهم المُشترون، وعلينا فقط إتمام الصفقة.







مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة