استقالات مدوية باتت تشهدها أوروبا الغربية، ربما أبرزها في بريطانيا، مع خروج رئيس الوزراء بوريس جونسون، من السلطة، وهو الأمر الذى بدأت إرهاصاته، مع ما يسمى بـ"فضيحة الحفلات"، إثر انتهاكه لقواعد الإغلاق المفروضة، في زمن الوباء، بينما تفاقمت الأمور ربما مع زيادة موجة التضخم، وارتفاع الأسعار في الأراضي البريطانية، خلال الأشهر الماضية، مع تفاقم الأزمة الأوكرانية، ليصبح التراجع الاقتصادي السبب الرئيسي وراء تراجع شعبية أحد أبرز من شغلوا هذا المنصب منذ عهد مارجريت تاتشر، والتي تلقب بـ"المرأة الحديدية"، بينما لم يختلف الأمر كثيرا في إيطاليا، حيث كان التراجع الاقتصادي، السبب الرئيسي وراء استقالة ماريو دراجى، في الوقت الذي ترتفع فيه أسهم منافسيه، مع اقتراب الانتخابات البرلمانية المقررة في سبتمبر المقبل.
التزامن بين الحالتين البريطانية والإيطالية، تمثل في جوهرها العديد من الحقائق، أبرزها أن دائرة الاستقالات ربما تمتد إلى العديد من الدول الأخرى، داخل القارة العجوز، في المرحلة المقبلة، مع تفاقم الأزمة الراهنة، وامتداد موجات التضخم، والغلاء، وتفاقم أزمة الطاقة مع اقتراب فصل الشتاء، ناهيك عن مخاوف حقيقية إثر نقص محتمل في السلع الرئيسية، وهو ما يضع حكومات الغرب الأوروبي، أمام ضغط حقيقي، حيث تبقى بين مطرقة شعوبها، وسندان الانقسام حول الموقف من أطراف الصراع الراهن، خاصة فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على روسيا، من جانب، أو تقديم الدعم العسكري إلى أوكرانيا، وهي الخطوات التي تبدو تصعيدية، وربما تدفع الحكومة الروسية نحو خطوات جديدة من شأنها التضييق على خصومها الأوروبيين.
إلا أن الاستقالات الأخيرة التي شهدتها بريطانيا وإيطاليا تحديدا، ربما كشفت، من جانب أخر، الفجوة الكبيرة داخل العديد من دول القارة العجوز، إثر تخلي الحكومات في الآونة الأخيرة عما يمكننا تسميته بـ"نظرية العداء المتوازن"، بين أطراف الصراع الدولي، فعلى الرغم من انتماء دول أوروبا الرئيسية إلى المعسكر الغربي، إلا أنها تمكنت من الاحتفاظ بـ"حد أدنى" من العلاقة مع موسكو، في مختلف مراحل الصراع، من أجل تحقيق مصالحها، خاصة مع تزايد النفوذ الروسي في السنوات الأخيرة، في أوروبا الغربية، بفضل "دبلوماسية الغاز"، والتي تمثل طفرة في خلق حالة من الارتباط بين الخصوم التاريخيين في شرق القارة وغربها.
فلو نظرنا إلى النموذج البريطاني، ربما نجد أن ثمة نبرة عدائية تاريخية معلنة تجاه موسكو، بينما تحمل في طياتها قدرا من الانسجام، أو "توافق" حول الحالة العدائية، جراء إدراك لندن لحقيقة مفادها أن بقاء روسيا كقوى قارية ودولية، يساهم إلى حد كبير في الاحتفاظ بمكانتها على الساحة الدولية، حيث تضع بريطانيا نفسها في صورة الدولة القادرة على حماية محيطها الأوروبي، في مواجهة "التهديد الروسي"، وهى الرؤية التي تعود إلى حقبة تاتشر، عندما سعت، بحسب وثائق ظهرت في الأعوام الأخيرة، إلى منع سقوط حائط برلين في الثمانينات من القرن الماضي، ولعبت دور الوسيط بين الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، والسوفيتي ميخائيل جورباتشوف، لحماية الاتحاد السوفيتي من السقوط، رغم كونها أحد أكثر السياسيين عداوة للشيوعية.
الأمر نفسه تكرر بعدها بسنوات، عندما دعم جهاز الاستخبارات البريطاني، في عهد رئيس الوزراء الأسبق توني بلير، صعود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى السلطة، خلال أول حملاته الانتخابية، والتي انتهت بتنصيبه في عام 2000، ربما لأنها تدرك قدرة "القيصر" على استعادة جزء من هيبة موسكو، وبالتالي تعود معها مكانة لندن، التي توارت بفعل صعود ألمانيا، منذ أواخر التسعينات من القرن الماضي، في الوقت الذي ترى فيه موسكو أن لندن تمثل حلقة مهمة في تفتيت التحالف المناوئ لها، عبر العديد المواقف، ربما أخرها الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، والذي يمثل لبنة مهمة في انهيار أحد أهم الكيانات المناوئة لها، بالإضافة إلى أن دورها الكبير في الناتو، من شأنه إثارة الحلفاء الأوروبيين، الغاضبين جراء "تمرد" لندن على حالة الوحدة، وبالتالي إضعافه.
وهنا يصبح الموقف البريطاني المتجاوز لحالة "العداء المتوافق عليه"، في العلاقة مع روسيا، خاصة خلال الأزمة الأوكرانية الراهنة، سببا في اختلال التوازن، الذي أطاح في النهاية بجونسون، وهو ما يفسر مواقف المتنافسين على خلافته، وعلى رأسهم ريتشي سوناك، والذي تعهد بالتركيز على الداخل وأزماته، على حساب حالة الدعم غير المحدود لأوكرانيا، في محاولة لاستعادة التوازن المفقود.
أما إيطاليا، فربما لم تعتمد منذ سنوات طويلة موقفا عدائيا تجاه روسيا، سواء في عهد رئيس الوزراء الأسبق سيلفيو بيرلسكونى، أو بعد ذلك خلال حكومة جوزيبى كونتي، وهو الأمر الذي يمثل تماهيا مع توجهات التيارات اليمينية بشكل عام، والتي تعتمد نهجا معتدلا، إن لم يكن أكثر تقاربا مع موسكو، وهو النهج الذي تخلى عنه ماريو دراجي، وربما ساهم في المستجدات الأخيرة، والتي قد تدفع إلى العودة مجددا نحو اليمين، باعتباره الأقدر على التعامل مع روسيا، والاحتفاظ بموقف أكثر اعتدالا تجاه الأزمة الراهنة.
وهنا تصبح الحقيقة أن بقاء الأنظمة الحاكمة يبقى مرهونا بالاحتفاظ بوتيرة معينة في العلاقات مع القوى الدولية، كما تبقى مكانة الدولة مرهونة بالاحتفاظ بقدر من التوازن في الفضاء الدولي، بعيدا عن الخطابات السياسية المعلنة، فالخطاب العدائي في السياسة الدولية، قد يحمل في طياته "توافقا" ضمنيا حول الحالة العدائية وحدودها، وهو ما يبدو في نموذج تاتشر، التي صعدت إلى قمة هرم السلطة بفضل خطاب يهاجم "الشيوعية" السوفيتية، إلا أن حالة العداء تراجعت وتيرتها، إلى الحد الذى توسطت فيه المرأة الحديدية لدى واشنطن، لمنع انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي يمثل من وجهة نظر لندن نهاية نفوذها الدولي، وهو ما تحقق فعليا لأكثر من 15 عاما صعدت خلالها برلين إلى القمة من بوابة "أوروبا الموحدة"
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة