على الرغم من الطبيعة الإفريقية للجولة التي يقوم بها وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، والتي انطلقت من القاهرة، إلا أنها حملت في طياتها "نكهة" عربية، تجلت بوضوح في الزيارة التاريخية التي أجراها إلى مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، لتكون فرصة جيدة للعمل على مسارات متعددة، منها ما هو ثنائي، عبر توطيد العلاقة بين موسكو و"بيت العرب" باعتباره الكيان الجامع لـ"الهوية" اللغوية التي تربط تلك المنطقة من العالم، بينما يقوم المسار الأخر، على توضيح وجهة نظر موسكو للدول العربية، عبر الحديث إلى المندوبين الدائمين، في خطاب يحمل أهمية كبيرة في كونه يقع في إطار التنافس الدولي بين روسيا والغرب، حول حشد الدعم العالمي، ناهيك عن مسار ثالث يتجه نحو التقارب مع إفريقيا، وهو ما يبدو في طبيعة الجولة، التي الكونغو وأوغندا وإثيوبيا.
ولعل توقيت الزيارة إلى مصر والخطاب الموجه إلى العرب، أحد المؤشرات الهامة، التي ينبغي النظر إليها بمزيد من الاهتمام، خاصة وأنها جاءت في بعد أيام من القمة العربية الأمريكية، التي عقدت في الرياض، حيث يبقى الحديث في "بيت العرب"، مع مندوبي الدول العربية بمثابة "اختصارا" لجولات من السفر، ربما تستغرق الكثير من الوقت والجهد، وهو ما يمثل اعترافا دوليا بالأهمية الرمزية والمعنوية الكبيرة، التي تحملها الجامعة العربية، ككيان يحمي الهوية ويمثل وسيلة مهمة للتوحد، في مواجهة العديد من التحديات، ولتجاوز الخلافات المحتملة بين الأعضاء، عبر العمل الجاد على تعظيم المصالح المشتركة، فيما بينهم، من أجل تحقيق أكبر قدر من التعاون.
إلا أن الانطلاق الروسي من مصر نحو المسارين العربي والإفريقي، يحمل في طياته، إدراكا كبيرا بأهمية الدور الكبير الذي تلعبه القاهرة، على المستويين الإقليميين، سواء عربيا أو إفريقيا، وهو ما ينعكس صراحة في الموقف العربي، الذي وصفه لافروف نفسه بـ"المعتدل"، خلال كلمته بالجامعة العربية، وهو ما يمثل أحد أهم ثمار الدبلوماسية الدؤوبة التي تبنتها مصر في إطار الأزمة الأوكرانية، عبر تبني نهجا يقوم على الحياد الإيجابي، وهو ما بدا منذ اليوم الأول، على المستوى العربي، عندما طلبت مندوبية مصر لدى الجامعة العربية، بعقد دورة غير عادية للمندوبين الدائمين، لمناقشة الأزمة وتداعياتها، في مارس الماضي، لتهيمن القضية على مائدة مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية بعدها بأيام قليلة.
الرؤية المصرية للأزمة الأوكرانية لم تقتصر على الدبلوماسية العربية الجماعية، في إطار جامعة الدول العربية، وإنما امتدت إلى العديد من الزيارات والقمم التي شهدتها القاهرة والعواصم العربية، في إطار السعي الدائم للوصول إلى موقف عربي موحد تجاه الأزمة الراهنة، وهو ما تجلى بوضوح في القمة العربية الأمريكية، والتي شهدت توافقا، ربما غير مسبوق، حيث كان التركيز على القضية منصبا على الكيفية التي يمكن بها تفادى، أو على الأقل تخفيف التداعيات، سواء على مستوى الأمن الغذائي، أو المائي أو أمن الطاقة، بينما كان هناك تمسكا واضحا بالقضايا والحقوق العربية وفي القلب منها القضية الفلسطينية، وهو ما يمثل في جوهره انتصارا مهما بعد محاولات دولية كبيرة لتهميشها، لصالح مخاوف، أو بالأحرى تهديدات أخرى، كادت تطيح بالمنطقة في غياهب الفوضى، خلال العقد الماضي، في أعقاب "الربيع العربي".
وأما على المسار الإفريقي، فاستهلال جولة لافروف بالقاهرة هو إدراك صريح بدورها القيادي على المستوى القاري، عبر العديد من المحاور، أهمها محور التنمية الاقتصادية، حيث تضع الدولة المصرية على عاتقها، منذ ميلاد "الجمهورية الجديدة"، مسؤولية دعم محيطها القاري في مختلف المحافل الدولية، وهو ما يبدو في الدور الكبير الذي تلعبه في دعم الدول الإفريقية ومن ورائها معسكر الدول النامية فيما يتعلق بضرورة دعمها في مجابهة التغيرات المناخية، جنبا إلى جنب مع تحقيق التنمية الاقتصادية، بالإضافة إلى تقديم تجربتها للعديد من دول القارة لتحقيق طفرة اقتصادية من شأنها مساعدة دول القارة لتحقيق التنمية المستدامة.
وهنا يمكننا القول بأن جولة لافروف بما تتضمنه من أجندة متنوعة، بين مسار عربي وأخر إفريقي، فإنها تمثل انعكاسا لحقيقة مفادها أن مصر أصبحت بمثابة "منصة" مهمة للدبلوماسية الإقليمية، ناهيك عن التوسع الكبير في دورها على المستوى الدولي، وبالتالي يبقى دعمها بمثابة عامل مؤثر لطرفي الصراع الدولي الراهن، في ظل الرغبة الجامحة بينهم للحصول على أكبر قدر من الدعم في المرحلة الحالية.