كان الدكتور محمد صبرى السوربونى يدرس بجامعة السوربون فى باريس، حين وصل إليها الزعيم سعد زغلول على رأس الوفد المصرى، يوم 11 إبريل 1919، لحضور مؤتمر الصلح، فتوثقت علاقته بسعد الذى اختاره سكرتيرا ومترجما للوفد، ودار حديث بينهما، قال فيه السوربونى: «قبل السلاح والحماسة، علينا أن نكتب تاريخ مصر أولا بشكل دقيق»، فرد سعد: «ماتكتبه يا فالح، حاكتبه أنا»، حسبما يذكر الدكتور محمد صابر عرب فى مقاله «محمد صبرى السوربونى.. ظُلم حيا وميتا»، «الهلال- 3 ديسمبر 2020».
يرى «عرب» أن «هذه الفترة من حياة السوربونى غيرت من مساره العلمى»، ليصبح «أعظم مؤرخى مصر الحديثة» بتقدير المفكر المؤرخ محمد عودة فى إهداء كتابه «أحمد عرابى قصة ثورة» إليه، ويعتبره الكاتب الصحفى محمد حماد من أوائل المؤرخين المؤهلين الذى يركز على دور الشعب كفاعل فى التاريخ المصرى، وفقا لمقال «محمد صبرى السربونى.. مؤرخ لم ينصفه التاريخ»، «موقع أصوات- 3 أكتوبر 2019».
حسب كتاب «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره»: «ولد السوربونى فى المرج بمحافظة القليوبية عام 1890، ونال شهادة البكالوريا عام 1913، وأصدر فى عام 1910 وهو مازال طالبا بالمرحلة الثانوية، الجزء الأول من كتاب «شعراء العصر» بمقدمة للأديب مصطفى لطفى المنفلوطى، وأصدر الجزء الثانى عام 1912 بمقدمة للشاعر العراقى جميل صدقى الزهاوى، وسافر إلى فرنسا عام 1914 للدراسة، ومع اشتعال الحرب العالمية الأولى عاد إلى القاهرة، ثم عاد إلى باريس على نفقته، والتحق بالسوربون عام 1915 فحصل على شهادة الليسانس عام 1918 ثم الدكتوراه بأعلى مراتب الشرف، وهو الذى زف خبر نجاح طه حسين فى الامتحان، كما روى طه بنفسه فى سيرته «الأيام»، وأشار إلى زميل ثالث اسمه جلال شعيب هو بطل رواية «أديب»، وقد ضيع شبابه فى باريس وعجل ذلك بمنيته قبل أن يظفر بأى شهادة».
ويذكر «فلسطين»، ما قاله له السوربونى عن سبب دراسته فى السوربون: «كان من قبيل التحدى، وانكب على دراسة اللغتين اللاتينية والفرنسية، وبلغ من اتقانه الفرنسية حدا جعله يؤلف كتبه بها وينشرها فى باريس بمقدمات لأساتذته المرموقين، ومن قبيل التحدى أيضا، تخصص فى مجالين هما التاريخ والأدب وأضاف إليهما هواية الفن»، وفى كتاب «أفكار الكبار» يقول فتحى رضوان: «كان أول مصرى يحصل على درجة دكتوراه الدولة من السوربون، وداعبه أصدقاؤه فأسموه «السربونى» على سبيل المعابثة، فلم تخفه المداعبة العنيفة، وأبى، إلا أن يجعل لقبه السربونى، فراح علما عليه، وحصل على هذا اللقب العلمى الجليل فى سنة 1924، وكانت رسالة الدكتوراه عن «نشأة الروح القومية فى مصر».
عاد إلى مصر عام 1924، ويذكر «عرب» أنه عمل مدرسا للتاريخ فى مدرسة المعلمين العليا، ثم التحق بالعمل فى الجامعة المصرية لعامين، وفى 1926 أصدر كتابه الشهير «تاريخ مصر من محمد على إلى اليوم» بتكليف من وزارة المعارف التى قررته على طلاب المدارس الثانوية، وهو الكتاب الأول الذى أعاد الاعتبار إلى أحمد عرابى، وتوالت مؤلفاته، «الإمبراطورية المصرية فى عهد محمد على والمسألة الشرقية»، و«الإمبراطورية المصرية فى عهد إسماعيل والتدخل الإنجليزى الفرنسى»، و«السودان المصرى 1821- 1889»، و «أسرار قضية تدويل قناة السويس» و «فضيحة السويس» عقب حرب السويس 1956، و«المسألة المصرية»، و«تقرير الزعيم أحمد عرابى إلى المحامين» و«الثورة الفرنسية ونابليون»، و«نوبار باشا» وغيرها من المؤلفات التاريخية، وفى مجال الأدب قدم «خليل مطران»، و«الشوقيات المجهولة» بجزأيه، وسلسلة «الشوامخ» عن شعراء ما قبل الإسلام، و«محمود سامى البارودى»، و«إسماعيل صبرى»، وبلغ إبداعه أكثر من مائة كتاب وبحث أكاديمى، فى التاريخ والأدب، بتقدير صابر عرب.
يتذكر «فلسطين»، أنه استكتبه مرة مقالا عن ذكرياته، فاستهله بقوله: «كان فى نيتى أن أكتب قصة حياتى بعنوان لقد عشت مليون سنة ولا غرابة فى ذلك، فإن مقاييس الزمان والمكان التى نعرفها سطحية، فليس الخط المستقيم أقرب الطرق دائما إلى الغاية، إذ يطيب لى أحيانا أن أبلغ الغاية من طرق جانبية متنوعة، أخرج من طريق إلى طريق، من منعرج إلى منعرج، دون أن أحس بطول المسافة والزمن، والواقع أن كل شىء نسبى مرهون بظروفه وملابساته، وقد يطول الزمن ويقصر ويبطئ ويعجل، فلا يصح قياسه بمقياس جامد لا يحسب حسابا لروح الزمن واختلاف مراحله».
رأى السوربونى أن تجربته تساوى العيش مليون سنة، لكنه فى الحقيقة عاش 85 عاما، وفى جزء منها وحيدا منسيا، بعد انفصاله عن زوجته السويسرية وهجرة أبنائه، حتى توفى يوم الأربعاء، 18 يناير، مثل هذا اليوم، 1978، ويذكر فتحى رضوان بأسى: «فى ظهر الخميس لم يودعه إلا عدد من عارفى فضله، ولا يزيدون على العشرة، وانصرفنا من الجنازة المتواضعة التى لم تستوقف أحدا، ولم تزحم طريقا، ولم تظفر من الصحف بسطر، ونحن موقنون بأن اسم محمد صبرى سيلمع ويضىء».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة