كانت الهدنةُ مَخرجًا مُؤقّتا من حالة الجنون. ذهب الطرفان إليها ولَدَى كلٍّ منهما حساباته الظرفية والاستراتيجية، وقد يستمرَّان فيها أو يعودان إلى قواعد الاشتباك السابقة: الاحتلال يزحف بطيئا بشعار «الأرض المحروقة»، والفصائل تتلقَّى الضربات عند الحدِّ الذى لا يجعلها قاتلة، على أمل أن تنتهى المواجهة وهى لا تزال داخل الحلبة، ما يعنى هزيمة العدو بمنطق حروب العصابات. اليوم تنتهى الوقفة الإنسانية، ويُرجَّح أن تنجح مصر وقطر فى إطالتها، ونظريّا يُمكن تمديدها مُجدَّدا بمزيدٍ من الاتفاقات التكميلية؛ لكن الخيار قد يتصادم مع أهدافٍ عميقة لدى «حماس» وحكومة نتنياهو، ومع تحدِّياتٍ قاسية؛ أهمها أنهما يتحضَّران لجولةٍ جديدة، ومن ثمَّ يتحسَّبان لكُلفة شراء الوقت بما تُلقيه من تبعاتٍ على أوراق القوَّة القائمة، وعلى مُعادلات التوازن النفسى الحاكمة للصراع.
أكَلَ الاتفاق الأوَّلُ قرابةَ رُبع مخزون الأسرى لدى الفصائل، ويُكلِّف إسرائيل فاتورة الخسائر المادية دون نشاطٍ عسكرى، فضلا على إعادة تعبئة شرايين القطاع بالوقود والحاجات الأساسية، وبعضها قد تصل إلى المُقاتلين. إن توقَّفت الهُدنة فى مُنتهاها المُعلن فإنّ «تل أبيب» على موعدٍ مع مزيدٍ من الغضب الشعبى، وقد عاين أهالى المخطوفين قبسا من الأمل، وابتهج بعضهم وزادت مرارةُ الباقين. وإن تعدّد التمديد فسيكون أشدّ ما يشغل «حماس» ألّا تستنزف ورقة المأسورين؛ لدرجة أن تفقد قدرتها على المساومة والردع المعنوى. هكذا يبدو أنهما أمام خياراتٍ قاسية: لن تقبل الأُسَر الصهيونيّة أن يُترَك أبناؤها فى قلب النار، وقد عرفوا طريقا لاستخلاصهم، ولن تشترى المقاومة أياما باردة بكلِّ مخزونها، ثمّ تقف عارية تماما أمام الجنون المُؤجَّل.
ما حدث أنّ التفاهم الأوَّل لم يكن سهلا؛ وأية أوراق تكميلية تالية بالتأكيد. قاوم الطرفان أن يُقرّا بأيّة بنودٍ تشى بالهزيمة، أو تمنح الغريمَ نصرا سهلا؛ ولولا نشاط القاهرة وإسناد واشنطن وسُلطة الدوحة على قادة حماس، ما كانت الهُدنة أُنجِزَت ولا دخلت حيِّز النفاذ. لكنّ إقرارها لم يكن نهاية المطاف؛ إذ لم تخلُ الأجواء من مُناكفاتٍ إسرائيلية، مُعتادة ومُتوقَّعة، أبرزها التلاعب بالشروط والقفز على معيار الأقدمية، ثم تعطيل مُبادلة اليوم الثانى لعدّة ساعات كادت تُعكِّر الأجواء، وربما فَرضُ ضغوطٍ ميدانية تُخالف ما جرى الاتفاق عليه أمنيّا وفيما يخص الرقابة ونشاط القوَّات.. كأنَّ حكومة نتنياهو تتهرَّب من أثقال الصفقة، وقد بدا عمليّا أنها تنقض كثيرا من ثوابتها المُعلَنة؛ إن بشأن استبعاد مبدأ التفاوض فى بادئ الأمر، أو وَصم «حماس» بالإرهاب وعدم الاعتراف لها بالسُّلطة والشرعيّة، وكذلك مسألة القضاء على الحركة كهدفٍ استراتيجى، يجرى النزول عنه إلى تعطيل قُدراتها أو تصفية قادتها الميدانيِّين. أمَّا الأخيرة فإنها لم تستهدفْ من الاتفاق سوى التقاط الأنفاس، وإعادة بناء الخطط والدفاعات، وإمداد المدنيِّين بما يحتاجونه بعد سبعة أسابيع من المُعاناة القاسية، ما يجعل التمديد عبئًا على الصهاينة وكسبًا للغزِّيين.
ربّما يعى بعض المُتنفِّذين فى حُكومة اليمين أنهم واقعون داخل دائرة استنزاف واسعة. ما عاد واقعيّا الحديث عن شَطب المقاومة، ولا مَسح القطاع من الخريطة، كما لا يُمكن احتمال الضغوط الشعبية ولا تضخُّم فاتورة الفشل بعدما تأخَّر الحسم. لقد قرَّروا فى البداية أن يهربوا من بوَّابة الحرب، ثمّ عادوا إلى السياسة من بوَّابة الصفقات التفاوضية؛ لكن الانقسام العمودى داخل الائتلاف التوراتى المُتطرِّف يُرجِّح العودة للسلاح مُجدّدا. والواقع أنهم محبوسون وسط غابةٍ من العناوين المُتضاربة؛ إذ لا تستقيم تصفية حماس مع استعادة الأسرى وتأمين جبهة القطاع مُستقبلا، والتضارب نفسه فى غزّة؛ بين أن تُحافظ الحركة على سُلطتها لآخر مدى مُمكن، وأن تُحرِّك القضية إيجابيّا وتحفظ الأرض والبشر.
يصعُب التوفيق بين باقة الأهداف الكاملة لدى كلِّ فريق؛ ولا مَخرج إلّا عبر التنازلات المُتوازنة من الناحيتين. والمُشكلة أنهما تورَّطا فى تعقيدات الميدان حتى فقدَا مسارات العودة أو الهبوط الناعم، وصارت الحاجة ماسّة إلى مُيسِّرين ووسطاء قادرين على رَدم الحُفر العميقة، والضغط المُتكافئ بما يُنزِل الجميع عن الشجرة دون انتصارٍ لجانب على الآخر. لكنّ الولايات المتحدة لم تعُد وسيطا نزيها، ومضى زمن أن تستدعى الإسرائيليين والفلسطينيين لغُرفتها المُغلقة فتجد القبول والترحيب، لا سيّما بعدما حشدت آلتها الدبلوماسية والعسكرية ووقفت فى طابور الحرب، كما أنّ المُمانعين لا يُؤمنون إلّا بالصواريخ والقذائف، ويُناورون بورقة غزّة طمعا فى مكاسب على جبهاتٍ أُخرى. هنا قد لا يكون الحل مُمكنا إلّا من باب العواصم العربية الوازنة، خصوصا القاهرة وعمّان؛ لأنهما الأوثق اتّصالا بالقضية، والأكثر إخلاصا لها، ولا تُحرّكهما نوازع عسكرية ولا مصالح اقتصادية، كما فى بقيّة المُحيطين بالملف.
الجمود الذى تقف عنده إدارة بايدن، يبدو أنه صار حاكما ومُتسلّطا على الذهنية الغربية بكاملها. إن السياسة الخارجية مُقاربة ديناميكية لا دُوجمائيّة، وبراجماتية لا مبدئيّة، بمعنى أنها يجب أن تتحرَّر من الأيديولوجيا لصالح استقراء التطوُّرات والتكيُّف معها؛ أمّا ما حدث بعد السابع من أكتوبر أنهم انطلقوا من مواقف فكرية وسياسية مُسبقة، وأزاحوا القانون والإنسانية جانبا مُقدِّمين تصوُّرا مُتلبِّسا بالمسيحية الصهيونية. كان من نتاج اللوثة أنهم سعوا لتطويع الوقائع بما يُلائم رُؤاهم المُعلَّبة، وفقدوا شرط الحيوية اللازم للعب أدوار أكثر كفاءة وتجاوبا مع تحديثات الميدان، وفوق ذلك أسقطوا عباءة الحياد؛ فصاروا مُعادلا لرأس المحور الشيعى وميليشياته، كأنّ المشهد ينقسم لفريقين من المقاتلين والحُلفاء؛ بينما تُرِكَت الساحة خالية من الوسطاء المُؤهَّلين لترويض تل أبيب، ومن ثمَّ إقناع «غزّة» بالتجرُّد والنزاهة.
لعلّ المقاومة حصَّلت عناصر قوَّة من فريق المُمانعة؛ لكنها اكتشفت خلال المواجهة أنهم لا يملكون المزيد، وليس فى ضمائرهم أن يُنشِّطوا مسارا حربيّا داعما، كما لا يقبلهم الخصوم وسيطا فى السياسة.. لقاء ذلك خيَّمت على المنطقة أجواءٌ من التنازع وافتراق السبل، وأطلَّ شىءٌ من المُناورة وسباقات البحث عن أدوار، كان بعضها من دولٍ خفيفة أو ذوات منفعةٍ مُباشرة، ما أضعف الدائرة العربية وقلَّص تأثيرها على الجنون الغربى والإسرائيلى، وعلى انشطار البيئة الفلسطينية. لقد تآكل الخطاب العروبى إلى مستوى الشعارات عند البعض، والمُهادنة من آخرين؛ لكنَّ الصلابة البادية فى مواقف مصر والأردن عالجت كثيرا من القصور، وضبطت خطابات بعض عواصم المنطقة والخارج، وأسدلت ستارا من العقلانيّة الخشنة على المشهد بكامله؛ كان من آثاره أن لانت لهجةُ البعض، وتطوَّرت رُؤى الباقين.
المُعادلة الآن أكثر استعصاء ممّا كانت عليه. يحتاج الإسرائيليون والغزِّيون إلى مزيدٍ من التهدئة، ويتحضَّر المُمسكون بالقرار على الناحيتين لجولةٍ جديدة من الاشتباك. ولا تسمح الهُدنة الزاحفة إلى نهايتها باستقراء توازنات الميدان، أو توقُّع المآلات القريبة والبعيدة؛ أوّلا لمحدودية المُهلة الزمنية، ثمّ افتقاد المعرفة بالجبهة الحمساوية وما صارت إليه بعد أسابيع العدوان، والأهمّ لأن الطرفين ذهبا للتهدئة بمنطق الحرب المُؤجَّلة، وأنها وقفةٌ تعبويّة وليست خطوة نحو التبريد الكامل. إسرائيل تُريد أسراها وفوقهم جثّة «حماس» وسلاحها، وقد تتَّسع الباقة إلى طمعٍ فى الأرض أو رغبة فى إزاحة «حلِّ الدولتين» من الطاولة للأبد؛ لذا تعرف الحركة أنها فى مُنازلةٍ وجودية معدومة الخيارات، وتُريد أن يتكبَّد العدوّ مزيدا من الخسائر المُرهقة؛ حتى تتحصَّل على انتصارها من عودته المُنكسرة للتفاوض، أو قبوله الاضطرارى بالتعادل. وتلك الصيغة الصفرية تُخبِّئ وراءها مُكاسرة مفتوحة، قد يخشاها الطرفان؛ لكنهما يستعدَّان لها بيقينٍ وإصرار لا يتزحزحان.
إن انتهت الهُدنة؛ فإن «غزّة» على موعدٍ مع هجمة دامية ونزيف جديد، وإسرائيل ستُعاين تكاليف أكبر على الاقتصاد وتماسُك الجبهة الداخلية. وإن سارت إلى تمديدٍ مُطوَّل فلعلّ الاحتلال يُقامر بما تبقَّى من رصيد الدعم الغربى، ويصطدم من نقطة الثبات بتحوُّلات المزاج الشعبى حول العالم، كما أن «حماس» ستنزف مزيدا من الأسرى، وهى تعلم أنهم ورقتها الوحيدة ولن تُغامر بإلقائها تماما؛ إذ ما بعدها من هجمات سيكون جحيما أكبر من كلّ ما فات، ولعلّها عند نُقطةٍ مُعيَّنة ترفض الوقفات الإنسانية مدفوعةَ المُقابل بقدر ما يرفضها اليمين التوراتى، خصوصا عندما ينتهى المدنيِّون وتقترب الصفقة من الأسرى العسكريِّين. هكذا يبدو أُفق التهدئة محكوما بحساباتٍ ظرفيّة ضاغطة، لا سيّما أنه لا تصوُّر لدى الطرفين عن اليوم التالى. لا يعنى ذلك أن الهُدنة ستنتهى فى موعدها، ولا أنها باقيةٌ أيضا. خبرةُ التجارب السابقة أن الهدوء يتموضع على كومةٍ من الجمر، وكل اتفاقٍ مُهدَّد بالنقض حتى لحظته الأخيرة؛ لكن المقصود أن لدى المُعتدى والضحايا ما يكفى من الأسباب والغايات لاستبقاء الهُدنة، وما يكفى أيضا لتفجيرها، وعامل الترجيح يتّصل بالخسائر وحجمها وقُدرة احتمالها، وباستكمال عدَّة الجولة التالية. المَخرج الوحيد أن يتشكَّل أُفق سياسى مُغاير، ولا يبدو ذلك وشيكا بينما تتشدَّد واشنطن فى رفض وقف إطلاق النار، ويتحرَّك المُستفيقون من أوروبا بمنطق إبراء الذمَّة.
الإيجابية الوحيدة أن الجنون لم يعد مُهيمنا بمفرده، وأفسح جانبا من المشهد للتعقُّل. المُقاربة التى أنتجت الهُدنة قادرةٌ على تكرارها، وتدعيم العواصم العربية الوازنة يمكن أن يُمهِّد الطريق لتهدئةٍ طويلة؛ شريطةَ أن ينزل «بايدن» عن الشجرة أوّلا، وأن تخفُت أصوات الساعين للاستثمار فى الفوضى والدم، ويتلمَّس الفلسطينيون برنامجا وطنيّا قادرا على مُعالجة القصور فى رؤى الأطراف الدوليِّين. يُمكن أن تتجدَّد الهُدنة، كما يُمكن أن يُفشلها أحدُ المجانين فى تل أبيب أو غيرها من الساحات الساخنة؛ لكنّ مسارات الهياج لم تعُد غائمة. عندما قال الرئيس السيسى قبل أيّام إن تصفية القضية أو تهجير الفلسطينيين «خطّ أحمر» لدى القاهرة، كان فى واقع الأمر يقترح المسلك الوحيد المقبول للتهدئة، وهو أن يبقى الغزِّيون فى أرضهم، وأن تظل فلسطين حاضرة فى الضمير وعلى طاولة التفاوض، ويتعيَّن على كلِّ المُتّصلين بالصراع ترتيب أوراقهم وفق المُعطيات المُستجدَّة؛ لأن ما دون ذلك يُهدِّد المنطقة بكاملها، وقد يقطع الشجرة التى يعتليها «نتنياهو» وحكومته، فلا يعود ممكنا الهيمنة على الميدان، كما لا يعود الإفلات من فخاخِه الدامية ميسورا ولا آمنًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة