يواجه القطاع العقاري أزمة متشابكة ومعقدة خلال الفترة المقبلة، خاصة الإسكان المتوسط، الذي يخاطب الشريحة الأكبر في المجتمع، في ظل حالة التقاطع الواضح بين العرض والطلب بصورة جعلت اللقاء بينهما شبه مستحيل، فالبائع ينتظر أعلى نقطة في الأسعار، والمشتري يسعى قدر الإمكان ناحية الفرص والتخفيضات، وكلاهما لا يتفق في النهاية، لذلك صارت نقاط الالتقاء صعبة، في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، والأزمات التي يشهدها العالم، لا سيما الاقتصاديات الناشئة، نتيجة ارتفاع معدلات التضخم، وتراجع مؤشرات النمو، واستمرار وتيرة الحرب الروسية الأوكرانية بصورة نتج عنها اضطراب سلاسل الإمداد في العالم كله.
الشركات العقارية الكبيرة والمتوسطة في مأزق نتيجة ارتباطها بمواعيد تسليم طويلة الأجل تمتد لعدة سنوات مع زبائنها، بل إن بعض المشروعات الجديدة تم تجميع مقدمات حجز لها ودفع أقساط قبل بناء طوبة واحدة، في حين تضاعفت أسعار الخامات ومواد البناء الأساسية، وكمثال تحرك سعر طن الحديد من حوالي 15 ألف جنيه، إلى نحو 28 ألف جنيه، وفق آخر الأسعار، بما يؤكد أن التكلفة الإنشائية للوحدة السكنية تضاعفت على المطور العقاري، ولو افترضنا أنه كان يحقق مكاسب 100%، فقد باتت هذا المكسب سراب، ولن يحقق حتى 5% من المستهدف، بالإضافة إلى المشكلات المتعلقة بتمويلات بناء الوحدات السكنية، وتكلفة التشغيل للعمالة.
المشكلة الفعلية في القطاع العقاري لا ترتبط فقط بأسعار مواد البناء والخامات الأساسية التي تعتمد عليها هذه الصناعة، لكنها في الأساس ترتبط بقضية أعمق وأعقد وهى تراجع مستويات الادخار لدى الأفراد، فمن كان ينفق 10 آلاف جنيه في بداية العام الماضي، بات ينفق ضعف هذا المبلغ تقريباً، نتيجة ارتفاع معدلات التضخم، وانخفاض قيمة العملة المحلية، وهذا بدوره أدى إلى تآكل مدخرات قطاع كبير من الطبقة المتوسطة، وعدم قدرتهم على تحمل أعباء ديون أو التزامات مادية طويلة الأجل، لا سيما إن كان حجم الأقساط كبير، ويزيد عن 50% من متوسط الدخل الشهري، إلى جانب احتمالية التعثر في سداد الأقساط لدى البعض، نتيجة زيادة الأعباء وثبات مستويات الدخل.
وسط كل ما ذكرت من تحديات في السطور السابقة، سنجد ظاهرة رفع أسعار العقارات على الورق قد انتشرت بصورة ملحوظة، لدرجة أن بعض الشركات رفعت أسعارها بقيمة من 30 إلى 40% في الأشهر الماضية، على الرغم من تراجع الطلب بصورة ملحوظة، ارتباطاً بالركود التضخمي، الذي باتت تبعاته على المجتمع أكثر خطورة من أي وقت مضى، وتوقعات ارتفاع معدلات البطالة، وفقدان الوظائف، نتيجة انكماش الأسواق وتراجع الاستهلاك على مستوى كافة السلع والخدمات، الأمر الذي يضرب القطاع العقاري في مقتل، ويجعل فرص التسويق والبيع للوحدات الجديدة شبه منعدمة.
قد يتجه قطاع عريض من أبناء الطبقة المتوسطة إلى فكرة استبدال السكن بنظام التملك إلى نظام الإيجار المؤقت، لحين استقرار السوق، خاصة أن تكلفة الفرصة البديلة أفضل بالنسبة للمستهلك، فلو أنك تمتلك مليون جنيه وترغب في شراء شقة بموقع متميز ومساحة معقولة لن يلبي هذا المبلغ احتياجاتك، وسوف تحتاج إلى الضعف، ربما أكثر حتى تحصل على هذه الفرصة، بينما لو تم توظيف هذا المبلغ "مليون جنيه" في صورة شهادات ادخارية مرتفعة العائد، وفق السائد الآن في البنوك 17% سنوياً، ستحصل على عائد 170 ألف جنيه، بما يشير إلى أن هذا المبلغ سيدر 14 ألف جنيه شهرياً، وهذا جيد جداً لتوفير شقة مناسبة في أحد الأحياء الراقية، لذلك أتصور أن تكلفة الفرصة البديلة في قضية حيازة العقار ليست في صالح هذا القطاع، الذي تشبعت أسعاره بصورة مفرطة على مدار سنوات، وصار يعاني سمنة مزمنة لا يعرف أحد مستوى الأضرار المستقبلية التي قد تسببها.
غياب الأرقام الدقيقة لحجم ما يتم إنشاؤه سنوياً في القطاع العقاري، أمر مربك جداً للمطورين العقاريين و زبائنهم على حد سواء، فلا يوجد إحصاء دقيق عن حجم الاحتياج الفعلي من العقارات الجديدة سنوياً، مع الوضع في الاعتبار رصد أعداد المساكن والشقق المغلقة، وفكرة "توريث العقار"، فالعقار ينتقل من الأب لأسرته وعمره الافتراضي، بات أطول بكثير من التقديرات القديمة، لذلك نحتاج دراسة علمية عن الاحتياج الحقيقي للوحدات السكنية سنوياً، سواء كانت هذه الوحدات موجهة للشباب ومحدودي الدخل، أو مصممة لتناسب احتياجات الطبقة المتوسطة أو مصممة بمواصفات فاخرة، وهذا أمر يسهم بصورة كبيرة في وضع خريطة حقيقية للاستثمار العقاري، دون أن يكون الموضوع مبني على تقديرات أو حسابات غير دقيقة، وبشكل شخصي لا أثق في أغلبها.
عدم فاعلية مبادرات التمويل العقاري، والتعقيدات الكبيرة المرتبطة بها، وارتفاع معدلات الفائدة خلال الفترة الماضية، جعل فكرة التمويل العقاري صعبة على البنوك، التي لن تتمكن من الوفاء بتقديم تسهيلات مالية بعوائد منخفضة لسنوات طويلة، في ظل أسعار فائدة وصلت إلى 25%، لذلك يجب أن تكون هناك سياقات جديدة لمبادرات التمويل العقاري، وقواعد مختلفة، وسقف مبالغ أكبر ، حتى تكون جاذبة لشرائح متنوعة من الزبائن، مع التقليل من الإجراءات الورقية والدورة المستندية الصعبة التي تطلبها البنوك من أجل استكمال خطوات التمويل العقاري.
واحدة من الأسباب التي تؤثر على نشاط القطاع العقاري ومستقبله خلال الفترة المقبلة، قضية الأمن الغذائي، التي باتت تحتل أولويات متقدمة في الوقت الراهن، سواء على مستوى الدولة أو الأفراد، فالكل يسعى لتأمين احتياجاته الغذائية بالصورة الكافية، دون النظر إلى قضايا تتعلق بمستوى الرفاهية، من بينها حلم الانتقال لمسكن أفضل، أو توجيه الأموال والمدخرات في منشآت عقارية، بات من الصعب تسويقها أو تسييلها على المدى المتوسط.
السؤال الذي يتردد على الكثير الألسنة في هذه الأيام.. ماذا يفعل من استثمر أمواله في عقارات ؟ وما الذي يمكنه فعله خلال الفترة المقبلة؟ أظن أن الاحتفاظ بالعقار في الوقت الراهن أفضل الطرق لتجنب الخسائر المحتملة، حتى وإن كانت الفرص البديلة ليست في صالح الحائز، لذلك من يمتلك عدد محدود من الوحدات السكنية في صورة استثمار عليه الاحتفاظ بها، لكن المشكلة الأصعب قد تواجه أصحاب المحافظ العقارية الكبيرة، فهؤلاء سيعانون نقصاً واضحاً في السيولة وضغوطاً نتيجة انكماش السوق، لذلك لن يجدوا مفراً من البيع بخسائر معتبرة أو تقديم تسهيلات وتنازلات لمن يمتلك "الكاش" أو بإمكانه توفير السيولة في أقل مدة زمنية.
أتصور أن أكثر من يمنون بخسائر في القطاع العقاري خلال الفترة المقبلة هم من يخططون للبيع بمنطق "الريسيل" أو إعادة البيع بعد دفع المقدم وبعض الأقساط، والحصول على ثمن الوحدة كاش من حائز جديد، فالخسائر المرتبطة بهذه الطريقة لن تقل عن 30%، نتيجة جفاف السيولة، وتضاعف احتياجات الأفراد، على مستوى كافة شرائح الدخل، لذلك لا أنصح على الإطلاق في الاستثمار العقاري على طريقة "الريسيل"، والفترة المقبلة سوف تكشف عن أولويات جديدة لدى المواطن المصري، الذي تغيرت لديه خريطة الدخل والإنفاق بصورة واضحة، وبات أكثر تردداً في الإقدام على خطوات لها علاقة بالاستثمار العقاري.