هناك حوار وطنى على وشك أن يبدأ، وهذه فرصة تتمثل فى توسيع المشاركة والانتقال من مخاطبة الذات أو المتابعين إلى نطاقات أوسع وأكثر جدية، خاصة أن هناك بالفعل ما يمكن طرحه والدعوة إليه فيما يتعلق بالحاضر والمستقبل.
العالم كله، وليس فقط مصر أو الإقليم، يواجه تحولات تحدث لأول مرة منذ عقود، أو هى تحولات كيفية، نتيجة تراكمات كمية تجرى منذ أربعة عقود على الأقل، العالم يشهد تحولات وتفاعلات تبدو نوعًا من إعادة توزيع القوة والنفوذ فى العالم، بجانب تحولات وتفاعلات سياسية واقتصادية تستلزم التعامل معها واستيعابها وتفهمها، وما يجرى فى غرب وجنوب مصر، وما يجرى من تراكمات لأحداث تتم على مدى عشر سنوات، كلها تحولات غير مسبوقة، وتشغل بال المحللين والمراقبين، ويصعب التعامل معها من خلال نظريات سابقة التجهيز، أو تحليلات جامدة لا تراعى ما تم من تفاعلات خلال عقد، تبدو أقرب إلى انقلابات فى موازين السياسة وقواعد الصراع والنفوذ.
التحولات التى شهدها العالم على مدى العقود الأخيرة من ثورات التكنولوجيا والاتصال ومنصات التواصل الاجتماعى، تغير من شكل السلطة وممارستها فى العالم كله، بل وتغير من عمل ودور وأداء الأحزاب السياسية، وشكل ممارسة دورها، ويفترض أن تضع الأحزاب والتيارات المختلفة هذا كله فى الاعتبار، وهى تستعد للمشاركة فى الحوار، أو حتى تقف حائرة أمام ما يجرى، مترددة وعاجزة عن اتخاذ موقف يناسب الواقع، أو يستوعب ما جرى وما يجرى من تحولات عالمية وإقليمية.
وحتى فيما يتعلق بالاقتصاد فقد تغيرت أساليب القيمة والربح الرأسمالية، ولم تعد تعتمد على القواعد التقليدية للاقتصاد التى ارتبطت مع الثورة الصناعية، لكنها تغيرت فى ظل موجة ثالثة أعادت صياغة القواعد ولا تزال، حيث لم تعد الزراعة والصناعة فقط هى أساس الثروة، والقيمة المضافة، وإنما المعلومات والتقنيات وشركات التكنولوجيا والدواء، وهى تفاصيل انعكست فى شكل وأداء المؤسسات الاقتصادية والتجارية، ثم إن الثروة لم تعد حكرًا على الغرب الرأسمالى، لكنها انتقلت وتوزعت وأصبحت تتوزع فى أقطاب جديدة وطرق حديثة، فالصين صارت شريكا منافسا فى قطاعات المعلومات والتصنيع الحديث بأجيال التقنيات الأكثر وجودًا، بجانب ما أصبح يشكله الذكاء الاصطناعى من خطر على شكل العالم التقليدى بصناعاته وتجارته، بجانب إعادة أو محاولة إعادة تشكيل نظام عالمى جديد، فى أفران الصراعات، والحروب التقليدية وغير التقليدية، والتى تظهر نقصًا فى حجم وشكل النفوذ فى العالم الحديث، كل هذه التحولات تفرض نفسها، وتتطلب أن يكون لدى المحللين والسياسيين القدرة على معرفة وتفهم ما جرى على العالم وشكل الممارسات السياسية، وتأثيرات عصر المعلومات على كل شىء، ترتب طرقًا جديدة للتعامل مع قضايا السياسة والاقتصاد، كل هذه التحولات لا يكفى معها البقاء عند القرن الماضى، أو الاكتفاء بنقل وترديد التقارير والأرقام والمعلومات، التى تمثل هى الأخرى فخًا يتطلب طرقًا أكثر حداثة فى تحليله وفهمه.
قد يسأل البعض ما علاقة كل هذا بالحوار الوطنى؟ والإجابة أنه من صميم الحوار، لأن هذه التحولات تنعكس على حياة البشر وتؤثر عليها، من خلال انعكاساتها على حياة الناس وطعامهم وشرابهم وعملهم، ولا يمكن لتيار أو حزب أن يتجاهل ما جرى فى السنوات الماضية، أو ما يشهده العالم من أزمات وانعكاسات للحرب فى الشمال، أو الجنوب، والصراعات فى الغرب والشرق، فهى تفاعلات تنعكس سلبًا وإيجابًا على البشر فى كامل الكرة الأرضية، ومن الصعب أن يتجاهل عاقل كل هذا وهو يتحدث عن الواقع أو المحلى، فالعالم كله أصبح يؤثر وينعكس على كل ما يستهلكه البشر وما يكسبونه.
لكل هذا فإن الحوار الوطنى ربما يكون فرصة لإعادة التحاور حول ما يجرى فى العالم بعيدًا عن قوالب جامدة.
p