أقل من مائة يوم كانت فاصلا بين الاستباحة الكاملة فى عرض الطريق، ووضع نقطة غليظة فى آخر السطر المُشوّه، بين 22 مارس و30 يونيو 2013، كانت فترة شخصية مليئة بالمرارة والضيق والهلع؛ بعدما اختبرت بشكل مباشر ما يعدُنا به حكم الإخوان فى أمننا وسلامتنا وأجسادنا، وانتظرت ثأرا حقيقيا لنفسى وأصدقائى والبلد بكامله.. مُلخّص القصة أننى كنت مسرحا لاستعراض القوة من ميليشيات الجماعة، فى واحدة من جولات الكشف عن وجهها القبيح، مختارةً أن تُمارس العنف المادى على مرأى الجميع، وأن تُوجّه رسائل بالغة الخشونة لخصومها، الذين حاولوا إدارة الصراع فى حيِّز السياسة السلمى، لم أُوثّق الموقف سابقًا إلا فى محضر الشرطة وتحقيقات النيابة، وبعض ردود على منشورات المواساة عبر مواقع التواصل؛ لكن أغلب أهل السياسة والثقافة فى الفيوم يذكرون الواقعة ويعرفون تفاصيلها، فى الجمعة قبل الأخيرة من مارس، كنتُ فقرةً ضمن «حفلة بلطجة» مارسها إخوان المُحافظة علنًا، فى واحد من أكبر الشوارع، وعلى بُعد دقيقتين فقط من قلب المدينة.
كنت أقضى إجازة قصيرة، اخترت استثمارها مع الأصدقاء لأقصى درجة، فى اليوم السابق ذهبت إلى بورسعيد رفقة مجموعة من المثقفين والسياسيين، كان الغرض أن نُوجّه رسالة دعم لأهلها إزاء ما طالهم على أيدى الإخوان فى الشهرين السابقين، حملنا هدايا لأمهات الشهداء احتفالاً بعيد الأم، واستعدنا مع الجميع معاناتهم مع الجماعة بدءًا من الذكرى الثانية للثورة، وما أفضت إليه بلطجتها من توتّر على طول خط القناة، كان يوما مُفعمًا بالجمال والأمل، هتف فيه آلاف ضد «مرسى» وجماعته، وحمل عشرات الشباب لافتات تنعى «شهداء حكم المرشد»، ثم عدنا آخر الليل، كنت مُنهكًا فأفرطت فى النوم إلى قُرب العصر، بعدها ذهبت إلى طامية البعيدة 27 كيلو مترًا عن عاصمة المحافظة لمشاهدة عرض مسرحى، ثم عُدت إلى قصر ثقافة الفيوم للقاء الأصدقاء، وفى حدود العاشرة مساء تلقّيت اتصالاً يستغيث صاحبه الموجود مع آخرين فى مقر أحد الأحزاب، من حصار مئات الإخوان للبناية بالشوم والأسلحة البيضاء، وأنهم يستعدون لاقتحام الحزب أو إيذائهم، لم تكن المسافة بيننا تتجاوز 500 متر؛ فهرعت مع مجموعة لاستجلاء الموقف، وربّما محاولة تلطيف الأجواء، ولم نكن نتخيّل أن يكون المشهد على ما وجدناه، يقف نائبان برلمانيان سابقان، ونحو ثلاثة من أعضاء المكتب الإدارى وقيادات حزب «الحرية والعدالة» المعروفون، وخلفهم ما لا يقل عن مائتى شاب بهيئات ريفية ولا يبدو أنهم من سكان المدينة، وحشد من سيارات النقل والدراجات النارية، بينما كان آخرون يهبطون سلالم المدخل ساحبين ثلاثةً نعرفهم مع فيضٍ من الشتائم واللكمات، حاولنا التدخُّل؛ فكان أن انصرف فريق منهم إلينا، وبدأت حفلة الضرب الجماعية.
لم أكن حزبيًّا وقتها، جرّبت الاقتراب؛ فلم أقتنع، ربما صنّفنى البعض ومنهم الإخوان ضمن توجُّه ما؛ إلا أننى ظللت على نفورى من العمل السياسى المُنظّم؛ لكن جمعتنى بالمستغيثين أنشطة عديدة لشهور فى مواجهة الجماعة، ثم عملنا لاحقًا فى جمع استمارات «تمرّد» مع إطلاقها بالشهر التالى، كان الصادم فى المشهد أن قادة الاعتداء يعرفوننا بدقة، ووجهوا مرافقيهم إلينا بالأسماء والصفات، انهالت علينا ميليشيات الجماعة عشوائيًّا بكل ما فى أياديهم، ثم ألقوا أحد الضحايا، وكان فنانًا تشكيليًّا مسيحيًّا لا له فى السياسة ولا التحزّب، داخل صندوق تروسيكل، وسحبوا بقيّتنا سيرًا إلى مقر حزبهم المُطلّ على ميدان المسلّة عند آخر الشارع، بعد مسافة قصيرة تدخّل شباب من أهل المنطقة وتراشقوا معهم بالحجارة لتخليصنا؛ نجحوا لكننى سقطت أرضًا، حملونى إلى قسم الشرطة ومنه إلى المستشفى، بينما احتُجز الفنان المخطوف عدة ساعات، إلى أن تدخّل الأمن وأخرجه من مقر «الحرية والعدالة»؛ ليحكى لنا لاحقًا تفاصيل بشعة عمّا تعرض له من اعتداء وإهانات، ومحاولات لإجباره على الاعتراف بأنه أُمسك به خلال مهاجمة الحزب وليس مُختطفًا من بعيد.
قضيت فى المستشفى عدة أيام، وتحرّكت 6 أسابيع تالية بعكّاز، وظل آخرون تحت العلاج بين أسبوع وثلاثة أسابيع، فضلاً عن سرقة أموالنا ومُتعلقاتنا الشخصية، فى تحرُّكنا القانونى بالمحضر 15588 لسنة 2013 جنح بندر الفيوم، اتّهمنا من نعرفهم من المُعتدين: النائبين السابقين أحمد إبراهيم وسامى نعمان، والمفارقة أن الأخير كان عضوًا بالحزب الوطنى وقُبض عليه مطلع 2014 على خلفية تورّطه فى اقتحام قسم شرطة إطسا، واتهمنا معهما الطبيب أحمد عبدالرحمن مسؤول المكتب الإدارى للإخوان وأمين حزبهم بالفيوم؛ بينما لم نعرف أحدًا من البلطجية المُسلّحين، وتبيّن لنا لاحقًا أنهم شُحنوا من قرى بعيدة حتى يكونوا مجهولين لمن يراهم، فى الأسابيع التالية أخبرنا وسطاءُ التصالح أن أرفع قيادة الجماعة الأرفع ومالك أكبر المستشفيات الخاصة بالمحافظة، حرّر بلاغًا يتّهمنا بالتعدّى على ابنته ومحاولة اغتصابها، ضمن مُساومة خشنة لإجبارنا على تصفية الخصومة القانونية، رفضنا الابتزاز، وتسارعت الأمور وصولا إلى 30 يونيو، وفرّ «عبدالرحمن» باتهامه الكيدى البائس إلى إسطنبول، ليُعاون محمود حسين ويتولّى المكتب الإدارى للإخوان بالخارج؛ حتى أُطيح على خلفية الصراعات الداخلية واتهامات الفساد بين جبهة أمين التنظيم السابق، ومجموعة إبراهيم منير، القائم بأعمال المرشد حتى وفاته أواخر العام الماضى.
ما جرى معنا فى الفيوم، سبقه فى اليوم نفسه اعتداء أفدح على عشرات الشباب والفتيات فى المقطّم، سكنت المنطقة لاحقًا، وسمعت من بعض أهلها الأقدمين حكايات عمّا جرى، وعن ممارسات الإخوان الاستعراضية المُتغطرسة منذ انتقالهم من المنيل بعد يناير 2011، ومحاولتهم إغلاق المحيط لصالحهم والتضييق على السكّان والعابرين. التفاصيل أن المعارضين قرّروا التظاهر أمام مكتب الإرشاد، بعدما تبيّن لهم أن «مرسى» سكرتير لا رئيس، وأن القرار من بديع والشاطر رأسا، وعليه فهما الأحق بالاعتراض والرسالة، شهادات الأهالى وما قاله شهود القضية بالمحكمة أن التظاهرة كانت سلميّة تمامًا؛ حتى أطلق عناصر الإخوان الرصاص من الداخل، فسقط قتلى ومُصابون وارتفع منسوب الغضب؛ فكان اقتحام المبنى، فوجئ الجميع بالأسلحة والذخائر وجراكن البنزين المُعدّة لإنتاج عبوات حارقة «مولوتوف»، وكان المشهد أحد الأيام الكاشفة للتنظيم ونواياه المُضمرة للعنف وإخضاع الخصوم بالقوة؛ لكنه لم يكن الأول، تكرّر فى أغلب المحافظات وعشرات المدن والقرى، وسبقته أحداث القناة والعباسية، وما جرى على مرأى العالم فى محيط قصر الاتحادية ديسمبر 2012، وقتما خرج إرهابيّو الجماعة بأسلحتهم على المُعتصمين، فضربوا وأحرقوا وأصابوا واختطفوا واستجوبوا العشرات، وقتلوا زميلنا الصحفى الحسينى أبو ضيف.
كنت شاهدًا على موقف آخر، بعد 30 يونيو ظل مئات من معارضى الإخوان على اعتصامهم فى التحرير، وكنا نذهب ونأتى لقضاء الوقت معهم؛ حتى تحول الأمر إلى طقس يومى، أغادر مقر إحدى المنصّات الصحفية حيث كنت أعمل وقتها، لأمُرّ بالميدان قبل العودة للمنزل، فى أحد أيام رمضان أواخر يوليو 2013 فوجئنا قبل الإفطار بمئات من عناصر الجماعة يُهاجمون المعتصمين من جهة قصر النيل، وبعضهم يطلقون الخرطوش وعبوات المولوتوف، تدخّلت عناصر التأمين للفصل ومنع دخولهم إلى الميدان؛ لكنهم واصلوا الهجوم، وحافظت القوّة على ثباتها حتى لا تتعقّد الأوضاع، فكان أن تقدّمنا لتشتيتهم ونجحنا فى الإمساك ببعضهم، وبينما كنت أسحب أحدهم بسلاحه من بين أيدى الغاضبين لتسليمه إلى سيارة شرطة قريبة، التُقطت صورة لى وتداولتها عناصر الجماعة الإرهابية مُرفقة بعبارة «أحد بلطجية العسكر يعتدى على المُتظاهرين السلميين» والمُضحك أننى كنتُ مُمسكًا يُمناه برفقٍ وفى يُسراه أداة هجومه، وكنت أمنع عنه الضربات الغاضبة حتى أننى تلقّيت بعضها فوق رأسى، كان الموقف مُلخّصًا بدقّة للجماعة ومنهجها منذ حسن البنا حتى صقور الشاطر؛ لناحية كيف تكون مجرمًا عتيدًا ومُحترفًا للبلطجة بإصرار؛ ثم تكذب وتُصدّق كذبك، وتتمادى فى ادّعاء البراءة.
لم يكن موقفى ضد «الإخوان» نابعًا من تداعيات 2011 وممارساتهم فى السياسة والسلطة، ما أذكره وأنا طفل فى قرية صغيرة بالفيوم أنهم حاولوا استمالتى، وكانوا يُحكمون قبضتهم على كل الأنشطة المُغرية لناشئ صغير، من مباريات الكرة والمسابقات والمعسكرات وصلوات الأعياد، خطأ النظام السابق أنه حصر خطورتهم فى الصراع على السلطة، فواجههم سياسيًّا لكنه أفرغ لهم الساحات الاجتماعية والمساجد ومراكز الشباب فأصبحت ملعبًا مفتوحًا للتسويق والاستقطاب والتجنيد، لم يطُل رهانهم معى بعدما باتت أسئلتى تزعجهم، وكنت مُحبًّا للقراءة ومُهتمًّا بالتاريخ وأتابع الصحافة، ما وفّر لى هامشًا من المعرفة بماضى الجماعة والمآخذ عليها، وكان مُزعجًا لهم أن أُثير الشبهات حول البنا والهضيبى وسيد قطب والتلمسانى ومصطفى مشهور، وأن أذكر لهم السندى وسيد فايز وعبدالحكيم عابدين، فلفظونى سريعًا وأصبحت مطرودًا من جنّتهم المزعومة، طردًا جِلفًا مُعلنًا بازدراء وتحقير، واعتبروا ذلك عقابًا قاسيًا واستكملوه بجفاءٍ ظاهر فى التعامل لسنوات، وبإجبار أبنائهم على مقاطعتى؛ فخسرت ثلاثة ممّن كانوا أصدقاء أو زملاء دراسة مُقرّبين، وتلاشت علاقتنا كأنها لم تكن، ورغم كل ذلك لم ينسوا لى الأمر، حتى أن أحد كوادرهم البارزة بالقرية، وقد منحوه لاحقًا مقعدًا فى إحدى النقابات وكان يُحضّر للانتخابات المرتقبة بعد حل مجلس الشعب، قابلنى بعكّازى بعد موقعة مارس 2013؛ فقال شامتًا: «تعيش وتاخد غيرها طول ما انت علينا مش معانا»، رغم الخلفية القديمة، كان الغلوّ فى العداء بعدما وصلوا للحُكم مُزعجًا، وكان يُبشّر بالشَّطب الخشن حالما تتوفّر لهم الفرصة، ليس مبالغةً القول إن استمرار الإخوان ربما أفضى إلى قتلى وغيرى فى الشارع، أو على الأقل تلفيق قضايا مُخلّة تزج بنا فى السجون، كما حدث فعلاً ولم يتورّع ذو حيثية منهم عن استخدام ابنته ورقة تهديد؛ ربما لهذا وغيره أنا وملايين معى مدينون لـ«30 يونيو» بأعمارنا، وبالوطن الذى كانوا يتحضّرون لالتهامه، وإلحاقه تابعًا لأجندات ومشاريع أخرى.
مرّت عشر سنوات ولم أنس ألم الضرب ومرارة الإهانة، وليست الذكرى من نوعيّة الخبرات المُرشّحة للنسيان؛ لا سيما أن وجعًا مُلازمًا لى من آثارها فى منطقة الحوض، أستشعره مع كل جهدٍ زائد ويتضاعف فى مواسم الشتاء، رغم قسوته لا أحب أن يزول؛ إذ أعتبره تذكارًا باقيًا لتجديد الموقف الصلب تجاه الجماعة، وإنعاش الذاكرة، وضمان ألا تنحرف الحكاية فى وعيى مهما مرّ الزمن أو تقلّبت المشاهد.. لم يكن مُمكنًا على أى وجهٍ أن يستمر الإخوان؛ فقد أثبتوا فى كل موقف ومحكٍّ أنهم لا يقبلون الآخر، ولا يحترمون الاختلاف، ولا يمنعهم من إزاحة خصومهم بدنيًّا إلا أن تتوفّر الفرصة؛ لذا كان مُنتظرًا إن استمروا فى السلطة أن يتعاظم سلوكهم الإقصائى الخشن، وأن يُطيحوا بالدولة نفسها ويبتلعوا أركانها لصالح صيغةٍ بديلة مُشوّهة، وثبت أنهم كانوا يُحضّرون لإنشاء ميليشيات أقرب لصيغة الحرس الثورى، ويمدّون الروابط مع الجماعات الإرهابية، ويُنفّذون مُخطّطًا للتغلغل داخل المؤسَّسات وأخونتها.
الاعتداء علينا فى الشوارع كان بروفة، والعرض النهائى لم يكن ليقبل بأقل من إراقة الدم تحت لافتة الكُفر ومحاربة الإسلام، ما أنجزته «30 يونيو» أنها أنقذت الوطن من مصيرٍ أسود، وحرّرت الدين من أيدى تجّار سفلة، وأهدتنا جميعًا فرصةً ثانية مُهمّة للنجاة والحياة الطبيعية، ولو لم تُحقّق إلا ذلك فأنا شخصيًّا مدين لها، وباقٍ على العهد معها دائمًا، وأختصم كلَّ مَن يُعاديها أو يحاول الالتفاف عليها.. لا يفوق جرائم الإخوان انحطاطًا إلا افتراض أنهم يصلحون للتعايش معنا، أو القبول ولو تخيُّلاً أنهم يمكن أن يكونوا جزءًا من المشهد، الثورة على الجماعة أثمن ما أنتجه المصريون، وضمانتها ألا ننسى سفالتها، وأن نلتزم واجب «ردّ الجميل» بالتوافق ووحدة الصف وترميم تحالف 30 يونيو؛ والأهم ألّا يتعالى أحدٌ منّا على ديوننا الجماعية الثابتة لهذا اليوم الوطنى العظيم.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة