حازم حسين

احتراق خاطف بين يناير ويونيو.. تفكيك سرديّة الإخوان الفجّة عن الثورة والوطن

الثلاثاء، 04 يوليو 2023 03:57 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

كما لا يقدح سوء المتدينين فى نقاوة الدين، فإن ما آلت إليه بعض أيامنا الوطنية لا يمس جلالها وما كشفته من ثراء الحسّ والموقف. من هنا تكون 25 يناير حدثّا وطنيًّا مهمًّا وبليغًا؛ حتى لو تسرّب فى أوردتها الانتهازيّون، أو سعى الساعون لحَرْفِها عن الطريق وتوظيف ارتدادتها ضد الدولة والمجتمع، وكذلك 30 يونيو ثورة عظيمة ومُلهمة، لا يتبدّل إيمان المنتمين إليها مهما تباعد الزمن أو أُثيرت شائعات، واستهدفها خصومها والمُتحالفون معهم. فتحت يناير بابًا عريضًا لاستكشاف الذات وامتلاك المبادرة، وتمهيد الأرض لفرز مكونات السياسة والاجتماع ووضعها أمام المرآة من دون مجاملات أو مساحيق تجميل، واستكملت موجتها الأكثر بهاء ونضجًا فى يونيو حالة الكشف والمصارحة ولملمة الصفوف وتضميد الجروح، فعبّرت بأبلغ ما يكون عن الائتلاف والتضامن الوطنى وضمّ حزمة الهويّة كاملة، لا تنقص عودًا ولا تُخالطها شائبة. ضربت الأولى فكرة الشيخوخة وسد شرايين البلد، وأطاحت الثانية بالمُتطرّفين وسارقى الفرح ولصوص الدين والدنيا؛ وبتكاملهما يُشكّلان لوحة وطنية واحدة: إطارها الأمل والإقبال على الحياة، ولحمها وعظامها شخصية مصر وروحها الناصعة.

حينما خرج الملايين فى 2011 كان فيهم المُغرضون والمُوجَّهون، وأغلبهم من المدفوعين بآمال إصلاحية، ربما كانت أكبر تطلُّعاتها أن تُعاد صياغة أُطر النظام وبرامج عمله، وأن تدخل عليه تحسينات فى الفكر والأدوات والوجوه، ويضطلع بالتزامات حقيقية تجاه الحوكمة والكفاءة ومجاراة العصر؛ إن بانفتاح سياسى أو بمنافسة عادلة أو رعاية مُتجرّدة لطاقة الجدل والتفاعل الخلّاق بين فصائل المجتمع الحيّة، على أن تتكفل الأيام والتجارب ونُضج الممارسة بكسب الأرض وتغيير قواعد اللعبة تدريجيًّا، والذهاب لمساحة أكثر حيوية وإتقانًا فى إدارة خريطة القوى وتوجيهها نحو إدماج الدولة فى العالم وتطوّراته. قد تكون يناير أنجزت قليلاً أو كثيرًا خلال شهور غلب عليها التوتّر، لكن ما تلاها من صعود الإخوان لم يُهدِّد بلَجْم الطموحات الشعبية وإخصائها فقط؛ إنما سعى إلى إعادة إنتاج ما ثار عليه الناس، مع تغليفه بغلالة أصولية مُتطرّفة تفرز البشر بالعقيدة والمذهب والانتماء التنظيمى، وتستبعد الأغلبية لتسييد فصيل واحد، أراد اختطاف المشهد طمعًا فى قرون من السلطة، كما عبّر قادة الجماعة صراحةً عن أنهم جاءوا ليبقوا خمسة قرون. 
 
فى اللقاءات التحضيرية لتظاهرات يناير، وكان محمد البلتاجى مشاركًا عن الإخوان، اعتذر بحسب شهود العيان عن النزول ومشاركة القوى السياسية مطالبهم الاحتجاجية، مُقدّمًا تبريرات واهية كعادتهم منذ حسن البنا ورقصه المُتكرّر على كل الحبال، فغابوا عن المشاهد الأولى ثم تقاطروا سريعًا بعدما تنامت الموجة، ومن المشاركة المحدودة إلى التمدُّد والانتشار، وبدء مسار الهيمنة بالمواكبة لارتفاع سقف المطالب، وتضخُّم حركة الاحتجاج لتصبح خطابًا راديكاليًّا يُطالب باقتلاع النظام لا إصلاحه. هكذا التحق الإخوان/ التنظيم بالمشهد الواسع، وزايدوا على كل الأطراف، وزاحموا بالمناكب سعيًا إلى تصدُّر واجهة الصورة تمهيدًا لمصادرتها.
 
كانت حشود 25 يناير إشارة إلى انسداد قنوات الإصلاح، وإلى أثر الانغلاق الطويل وتكلُّس شرايين الدولة مع الحزب الوطنى، لا سيما بصعود ابن الرئيس وشلّته بعد مطلع الألفية. التطوُّرات اللاحقة عبّرت عن مدٍّ عدائى تجاه النظام، وهدَّدت بخشونة اجتماعية أو تجميد للنبض فى عروق البلد، وأمام تلك الصيغة تقدّمت مؤسَّسات الدولة الصلبة لتلعب دورًا حمائيًّا يُوازن بين تطلّعات الناس ومقتضيات الاستقرار. رحّب الجميع بالدور، ولا يُمكن افتراض أن الموجة العالية عبرت بسلام إلى محطّة التنحّى من دون أثر مُباشر لذلك، وهكذا فقد رُسمت ملامح المرحلة الجديدة فى إطار عقد اجتماعى وسياسى مُستحدَث، صُلبه أن إرادة الشارع حاكمة فوق كل الإرادات، لكنها محميّة بالقبول والتوافق مع حدود الأمن القومى ومؤسَّساته الحارسة؛ لذا كان طبيعيًّا أن تُراهن الجموع أو تتطلّع لاحقًا لتلك الفاعلية فى فض التشابكات أو تصفية الأجواء بين مكونات السياسة حال اختلافها. بوضوحٍ أكبر، اضطلع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمهمّة التواصل والحوار وابتكار صيغ التوافق بين النخب الحزبية والفكرية طوال المرحلة التالية، وكان المرجعية والحكم فى أمور الاتصال والإدارة والسلطة المُؤقّتة والقاعدة الدستورية وقوانين الانتخاب وملامح المنظومة المرتقبة، وتواضع الجميع على ذلك راضين ومُقتنعين، ولم يُخذَلوا فى رهانهم؛ إنما تخاذلوا أو تلاعبوا ببعضهم لاحقًا، لا سيما عندما أشعل الإخوان أحداث محمد محمود واستثمروا فيها؛ للانفراد بالانتخابات والهيمنة على البرلمان.
 
سعت الجماعة مبكّرًا إلى تقويض حالة الاحتجاج، وتأطيرها بحدود التنظيم وما يعتمده من أفكار أو يُخطّط له من مسارات، وكانت غايتها الالتفاف على الحشود ومصادرة طاقة الغضب، أو اختراع كفّة مقابلة لردع الخصوم والإيحاء بالانقسام. فعلت ذلك بدعوات مُلوّنة طائفيًّا، كما فى استقدام القرضاوى لميدان التحرير بعد أسبوع من تنحّى مبارك، أو تسويق استفتاء مارس باعتباره فعلاً دينيًّا، أو الدعوة لتظاهرات انتقائية كما فى «مليونية الشريعة» يوليو 2011، أو طرح الأزمة السورية فى ملأ من المُتطرفين لتكون منصّةً للحشد المذهبى وكراهية الشيعة والمزايدة على مواقف الدولة الملتزمة بمصالحها العليا أو أُطر العمل العربى، وغيرها من المواقف والمحطّات. كان الإسلاميون يعملون بكل جهد لسلب بقيّة المكونات السياسية والثورية طاقة الفعل وقدرات التأثير، وإخضاع المؤسَّسات بتقنيات الاستمالة أو المُداهنة أو التلويح بالشارع، والتحوُّل نحو صيغة إصلاحية تُحدث نقلات ظرفية محدودة فى بنية النظام السابق؛ بما يسمح بصعود الأحزاب الدينية وهيمنتها، وتثبيت مراكزها الجديدة بأدوات السلطة القديمة، ووراء ذلك تخفّت مرحلة مُتقدِّمة عمادها إحلال المؤسَّسات نفسها، بابتكار وبناء أجنحة تنفيذية وعسكرية مُنبثقة عن الجماعة وخاضعة لمرشدها؛ لتكون بديلاً عن الجيش والشرطة ودولاب الإدارة. إنضاج الخطّة والوصول إلى آخرها كان مآله الوحيد أن تذبل الدولة، وتنزوى لصالح تقدُّم التنظيم وقبضه على الزمام؛ لتصبح الأبنية المؤسَّسية ظلاٍّ قابعًا فى كنف الإخوان، طواعيةً أو عجزًا عن مناطحة الجماعة.
 
فى مشهد يناير، لم تعِ القوى السياسية أن الجماعة التى جاءت مُتأخّرة، كانت تُسرع الخطى لتعويض ما فاتها، وإطاحة سابقيها على مضمار الثورة. اقتحام السجون وتهريب «مرسى» ومرافقيه، وإثارة موجة عنف واسعة لرفع منسوب الخوف فى الصدور، ثم تنظيم صفوف الإخوان داخل ميدان التحرير وهيمنتهم على اللجان الشعبية وأنشطة الإعاشة والمنصَّات الدعائية، بل وتشكيل ائتلاف شباب الثورة وغيره من التجمُّعات المكوّنة ابتسارًا وعلى عجل، كانت كُلها تُشير إلى مُخطَّط مُبكّر لتأميم الحالة الثورية بالتدرُّج. إشارة أخرى أكثر وضوحًا تجلّت فى تشكيل التحالف الديمقراطى بانتخابات 2011، وبينما استشعر حزب الوفد الخديعة وغادر الطاولة، استمر الناصريون وغيرهم فى بيت الطاعة تحت لافتة «الحرية والعدالة». من جديد تكرَّرت الإشارات المُزعجة باحتكار تأسيسية الدستور، والتراجع عن وعد عدم الترشُّح للرئاسة، وبمحاولات التفلُّت من الإعلان الدستوى المنظّم لأداء الرئيس القسم، وبمؤتمر فيرمونت الذى مُورست فيه السذاجة السياسية لمداها الأقصى، ممّن ظهروا وراء «مرسى» أو من غادروا اللقاء قبل التصوير وبينهم كتاب وأكاديميون معروفون. كانت كل صحيفة من تلك الجرائم كافيةً لأن تنقض الأحزاب غزل المرحلة المُلطّخ بالتحالف الطمّاع أو بالخنوع والصمت المُرّ، لكنهم لم يستشعروا الخطر الوجودى إلا بالإعلان الدستورى الفجّ «نوفمبر 2012» وما تلاه من قتل المتظاهرين فى الاتحادية، وحصار مدينة الإنتاج الإعلامى والمحكمة الدستورية. أفاقت النخبة بعد غروب الشمس؛ لكن أن تأتى مُتأخّرًا أفضل من أن تظل عاطلاً أو أداةً رخيصة فى يد تنظيم رجعى، مُعادٍ لك شخصيًّا قبل عدائه للوطن وعموم المواطنين.
 
منذ صدر الثورة الأولى، سارت الأمور بإيقاع يعزفه مُوسيقيون يُقيمون بين المقطم وعواصم إقليمية وعالمية معروفة ولها تاريخ مع الإخوان، وكان أبرياء الميادين يتوهّمون أنهم الفاعلون. تداعت على الشوارع قوى وأطراف عدّة، وامتلأت الكواليس بالمُنسِّقين والمُتحالفين وعاقدى الاتفاقات، وظلّ الطيّبون والسُّذّج والأغبياء مُؤمنين بامتلاكهم الفعل، بينما حصل التنظيم وحلفاؤه على تسهيلات لوجيستية وغير لوجيستية، وكانوا ينفقون الملايين يوميًّا، ويستقبلون أطنان الأطعمة والمشروبات والأدوية ويُحرّكونها دون رقابة أو مُساءلة. أذكر من مشاهد يناير المُضحكة شجارًا اندلع بين عشرات الشباب وصفوت حجازى، عندما اصطحب الوجه الإخوانى الأغبر سيارة وحاول إفراغ قاعة مناسبات عُمر مكرم من نحو 20 طن دواء بحجة إرسالها للصومال.
 
باختصار، كان قطار الاتفاقات ينهب الكواليس، وحطب الشارع يُقنعون أنفسهم بأنهم يُمسكون بالمقود، بينما يُسحبون لينًا أو عُنفًا بسيناريو إخوانى خالص لمُربّع «الأداة»، لا «صاحب القرار». 
 
كان الاحتكام إلى المؤسَّسات واقعًا فرضته فوضى يناير، وعندما هبطت الملايين للميادين فى 30 يونيو واجهوا تنظيمًا أكثر جاهزية وتحضيرًا للعنف؛ لذا لم يكن من بديل عن استدعاء الركائز الصلبة مُجدّدًا. ما رحّبت به «الإخوان» سابقًا من باب الرهان على توظيف طاقته لتطويع خصومها؛ انقلبت عليه وحاربته لاحقًا، ولم يكن موقفًا منطقيًّا مُقنعًا، بالنظر لمحاولاتها الطويلة للإيحاء بأن أبنية الدولة تقف إلى جانبها.. لا تحتاج القوات المسلحة والشرطة إلى شهادة الجماعة؛ لكن من المُهمّ الإشارة إلى أنهم حينما أرادوا وضعهما فى مواجهة الشارع قالوا عنهما «مؤسَّسات وطنية مُحايدة وتحملها أكتاف رجال من ذهب»؛ لذا عندما خرجوا على البلد وبنيانه الشعبى والرسمى المرصوص كان خطابهم ساقطًا من بدايته، ومحاولاتهم وصم الناس بالكُفر أو تشويه الأجهزة بخطاب المؤامرة والانحياز، بدت بكاملها مُمارسةً إخوانية مُعتادة مع الاختلاق والابتزاز والدعائية الرخيصة، ما ساهم فى التحاق ملايين جُدد بطوابير الثورة عليهم، لا سيّما بعدما ترجموا أكاذيبهم إلى ممارسات عنيفة مفتوحة ضد الجميع «كيانات وأفراد».
يناير ويونيو من مشكاةٍ واحدة. ما أحرزته الأولى أكملته الثانية، وما أخفقت فيه جرى إصلاحه وترميم شقوقه لاحقًا.
 
لذا لا يمكن الحديث عنهما بضميرين مُنفصلين، ولا تشويه واحدة ومديح الأخرى. التصلُّب فى نقاء ونزاهة وحياد «25 يناير» وبراءتها من التربيطات لغو مُراهق، يعرف عواره كل من اقترب ورأى، وانتقاد «30 يونيو» لأنها تمتّعت بحماية المؤسَّسات الوطنية وقتما كشّر الإخوان عن أنيابهم السوداء لا يقل مُراهقةً، فضلاً عن تجاهله أن نجاح يناير لم يكن ليمُرّ لولا انحياز المؤسَّسات نفسها لإرادة الناس، وفق طبيعة المرحلة ومنطقها. الإخوان عندما حاولوا تنزيه «ثورة يناير» كانوا فى واقع الأمر يشهدون لـ«ثورة 30 يونيو» استباقيًّا، ومن حيث سعوا إلى تشويه الأخيرة كانوا يرمون الأولى بكل نقيصة فيهم، والحال بين الموقفين أنه إمّا أن يناير نزيهة ويونيو أكثر نزاهة، أو أن يناير مشبوهة ومن ثمّ لعبت يونيو دورًا ثوريًّا وإصلاحيًّا، بعلاج إفرازاتها والخلاص من الصاعدين فى مناخ الشبهة لتهديد الوطن. فى مقابل سردية التنظيم الإرهابى نقف الآن على أرض صُلبة لقراءة ماضينا، ويحفظ دستور 2014 لثورة يناير قيمتها الوطنية والسياسية، لتجاور أختها أو ابنتها «30 يونيو» من دون تناقض أو عداء. صحيح أن الأولى أتت بالفاشية الدينية وفتحت ساحات الوطن ملعبًا لأعداء الخارج والداخل، إلا أن كُرهنا الدائم للمرض لا للمريض، وواجبنا فى محاربة مُسبِّبات الأمراض هو فى حقيقته انتصار للطب والعلم والشفاء. 
 
القناعة العميقة التى لن تجد ما يُخلخلها الآن، ولا فى أية لحظة سابقة أو تالية، أن «30 يونيو» ليست مجرّد حراك ثورى؛ إنما هى الفرع الذى تجاوز الأصل، والموجة التى فاقت البحر/ الثورة الأم، إذ إن دخول الإخوان على خطّ السلطة صان ركائز النظام القديم، ومنحها دعمًا إضافيًّا بمزجها مع الفاشية الأصولية، ما كان يُبشّر بحكم ثيوقراطى على قاعدة الميليشيا ومنطق المُغالبة والاحتكار العنيف، فضلاً عن الأثر الأفدح بمسخ الهوية وضرب ثقافة مصر ومنجزها الحضارى المتراكم، عبر تسييد الفرز على العقيدة، والولاء والبراء، وجاهلية المجتمع، وتضييق دوائر الانتماء بالارتداد لروابط رجعية سابقة على الدولة الحديثة، ومن ثم فإن «30 يونيو» أصلحت بعض عوار «25 يناير»، ومثّلت استهدافًا مُباشرًا لتحالف الطابور الخامس مع قوى الخارج ضمن رهانات أُمميّة، إن بالخلافة أو الأُستاذية، وذلك قبل تمام اندماجه وتوحّده فى سلطة غاشمة وكيان عابر للحدود، لن تتيسّر مُخاصمته أو الاشتباك معه لاحقًا؛ لأنه يمتلك يقين السماء محمولاً على غشومية القوة، وإسناد الحلفاء والمُشغّلين من حكومات وجيوش وأجهزة استخبارات. ما حدث أن إيقاع العداء اللاهث كان أبطأ من نباهة المصريين واسترداد يقظتهم، فاحترق التنظيم وأجندته فى عبورهما الخاطف بين يناير ويونيو.









مشاركة

لا توجد تعليقات على الخبر
اضف تعليق

تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة





الرجوع الى أعلى الصفحة