انتهى ماراثون الثانوية العامة، وبدأت جولة جديدة من السباق. لم تختلف النتيجة كثيرًا عن العام السابق، كما لم تختلف مُؤشِّرات المرحلة الأولى من التنسيق. فى الوجه الإجرائى، تبدو الحلقة التعليمية التى طالما نُظِر إليها بوصفها «بُعبع» أو عُنق زجاجة فى مسيرة الطلاب، تنحلُّ إلى صيغٍ أهدأ وأكثر استقرارًا؛ لكن الفلسفة لم تتغيَّر، ونظرة الأهالى على حالها؛ ما يُبشِّر بأن تظلّ مسيرة طوابير الدارسين داخل المنظومة على حالها، والمُخرجات كما هى، وعلاقة التعليم بسوق العمل أسيرةً لرواسب اجتماعية تُناضل من أجل البقاء ومُحاربة الزمن. إنَّ ما تحتاجه الدولة رهينُ الخروج بالعملية التعليمية من صورتها القديمة، وما يريده الأهل أن تظلَّ المُعادلة كما اعتادوها، وبرعوا فى مناورتها. وبين الرغبتين لا يُثمر تعديل آليَّات الدراسة والامتحانات والتنسيق ما يُرتجى منها، ولا تُحدِث فارقًا حقيقيًّا، ومطلوبًا بإلحاح، من أجل التجاوب مع سياقٍ اقتصادى ومعرفى بات أكثر تطوّرًا وتعقيدًا.
نحو 112 ألف طالب يبدأون رحلة التنسيق، السبت المقبل، بتراجعٍ من مستوى 117 ألفًا بالعام الماضى. المُؤشَّرات فقدت قرابة 1% للشعبة العلمية وربع بالمائة للهندسية و6% كاملة للأدبية. يُترجم ذلك تراجعًا فى مستويات المجاميع: أكثر بقليل من 20 ألف طالب بين 90% وأقل من 100% بنسبة 3.35%، مقابل 5.29% فى 2022، و4.67% فى 2021. العدد نفسه كان 100 ألف طالب فى العام الدراسى 2012، بفقدان 80% خلال عشر سنوات؛ وما يزال سُعار الطلب على كلّيات بعينها مشتعلاً. نسبة الناجحين زادت من 73.6% و74.5% فى العامين السابقين على التوالى، إلى 78.81% فى 2023، لكن سقط نحو 160 ألفًا بين راسبين و«دور ثانٍ». الأرقام مُحايدة بطبعها، وتنقل صورةً رياضية عن المشهد؛ ونحن إزاء الحصيلة الرقمية نبدو بصدد تحسين المنظومة وسدّ ثغراتها القديمة، والخروج من حقبة «انتفاخ المجاميع» والتفوّق الوهمى، إلى تقييمات تبدو أقرب إلى العقل والمنطق. المشكلة أنه حتى فى ظل تلك التقييمات الخالية من التضخُّم المُفرط، ما تزال عناصر الخلل القديمة قائمة.
قبل أسابيع، خرجت نتائج الجامعات مُتضمّنةً أمورًا عدّها البعض صادمة. أخفق نحو 70% من طلاب الفرقة الأولى فى طب قنا بجامعة جنوب الوادى، و60% فى طب أسيوط، ونسبة وسيطة بين فرق كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية. أساتذة الطب فسّروا الأمر بأثر الغشّ وانفلات امتحانات الثانوية؛ بما يُنتج تفوّقًا وهميًّا، ينكشف سريعًا بعدما يصطدم بالتزامات علمية ومهارية جادّة كما فى القطاع الطبى، وفسَّره أساتذة القانون بأثر التيسير فى اختبارات «البابل شيت» وعجز الدارسين عن التجاوب مع مُتطلّبات استيعاب العلوم القانونية والإجادة فى الأسئلة المقالية. قد يحمل التفسيران شيئًا من الوجاهة؛ لكنهما لا يصلحان للتقييم الشامل والنهائى. من غير المنطقى أن كل المُلتحقين بالطبِّ من الغشّاشين وطلبة اللجان الخاصة التى حامت حولها الشبهات طوال سنوات، ومن غير المنطقى أيضًا أن كل دارسى الحقوق لا يُحسنون الفهم ولا الكتابة الحرّة. الواقع أننا بين الغشِّ وفَقر المواهب والمَلَكات؛ نختبر أثر الحشد الاجتماعى والتعبوى لخريجى الثانوية فى مساراتٍ لا تُلائمهم؛ إمَّا لأن الأهل أرادوا لهم أن يكونوا أطباء ومُهندسين، أو كانت إرادة «مكتب التنسيق» وفق منطق التسكين وملء الأماكن حسب المجموع.
الطالب الذى يُجبَر على دراسة الطب لا ذنب له؛ سواء كان عجزه عنها راجعًا إلى محدودية قدراته أو إلى اختلاف ميوله وتفضيلاته. وزميله الذى يُساق إلى كلية الحقوق أو غيرها تحت سقف التنسيق ومراحله، قد لا يكون مُؤهّلاً لتلك الدراسة أو راغبًا فيها. الأهل يُخطئون فى حق أولادهم حينما يفرضون عليهم مسارًا واحدًا للتحقُّق التعليمى، على أمل أن يكون طريقهم إلى الإنجاز الاجتماعى والاستقلال المالى، ومكتب التنسيق يُخطئ فى حقِّ آخرين حينما يسوقهم فى طوابير إلى مجالات لا تُراعى رغباتهم ولا تُناسب سوق العمل واحتياجات التشغيل. وتتطلّب مداواة ذلك التسلُّط على مستقبل الدارسين ومهاراتهم، أن يُراجع الآباء أفكارهم الموروثة عن الجدارة والقيمة، وأن يُراجع مكتب التنسيق معاييره فى ملء المقاعد الجامعية.
يرغب الأهل فى إلباس أولادهم «الأقنعة المعيارية» للتفوق؛ حتى لو كانت النتيجة إظهارهم على غير حقيقتهم. الواقع أنهم يستميتون من أجل إنجاز هذا الانتحال، حتى أن الأسرة قد تبتلع مرارة الإخفاق لكنها تتحسَّب، وتعمل جاهدة على ألا يعرفه الناس، كلّما كان مُمكنًا. يُنظَر إلى الرسوب كُليًّا أو جزئيًّا كأنه عارٌ لطَّخ وجه القبيلة، ويعلو الفخر بالمُتفوّقين تحت أُفق التمايز أيضًا. لا يُنتج هذا السياق نظرةً استهلاكيةً مُشوَّهةً لفكرة التعليم فقط؛ إنما يُغذِّى الرغبة فى اختراق المنظومة لصالح تحصيل الغاية المأمولة، والتواطؤ على الدارسين أنفسهم، بتحميلهم أعباء إضافية ليسوا مسؤولين عنها، ودفعهم فى مسارات قد لا يُحبّونها ولا تناسب قدراتهم الفعلية. كأن التعليم بات موضوع نزاع «طبقى جِيلى»، ومدخلاً للإخضاع والوصاية المُركَّبة: الأعراف المُستحدَثة على العائلات، والآباء على الطلاب، ومُعلّمو الدروس الخصوصية وأعباء المنظومة وكُلفة الجامعات على الجميع، وعلى الدولة قبلهم. هنا لا تكون الغاية فى المعرفة أو التعلُّم، بقدر عبور الفخ بأعلى امتيازات وأقل التزامات، المهم أن يعود جندى القبيلة من الجبهة بالشهادة التى تُحقّق الفخر، حتى لو لم تُضِف شيئًا حقيقيًّا له ولقبيلته، الصغيرة أو الكبيرة.
عاشت المنظومة طويلاً تأكل نفسها؛ من أجل إرضاء من يعتبرونها خصمًا لا حليفًا. فى كل تحويرات المرحلة الثانوية بدا أن الغرض ينحصر فى التخفيف عن الدارسين؛ بمعنى التساهل لا تحسين شروط التعلُّم، وهكذا يُمكن أن يُنظَر بأثر رجعى لإجراءات مثل: التحسين، و«ثانوية العامين»، ودرجات المستوى الرفيع. الأجيال الأخيرة فُتِحَت لها أبواب المناورة مُبكّرًا، عبر اختراع صيغة النجاح بالأبحاث خلال فترة كورونا، وتحوُّلها إلى نشاطٍ تجارى تُوفّره المكتبات وسناتر الدروس، وما تزال قائمةً ومُؤثّرةً حتى بعد إخراجها من حسبة التقييم والمجاميع؛ وفاعليتها فى الأذهان وتلويث البيئة التعليمية مُستمرّة؛ إذ لا يعرف الطلاب شيئًا عن منهجية البحث، ولا تُعبّر الأوراق عن واقعهم العقلى والدراسى، فضلاً على الوعى المُزيّف بإمكاناتهم، وبكفاءة المنظومة. يُضاف لذلك أثر التكنولوجيا وأجهزة التابلت، وقد لا يكون إيجابيًّا للأسف كما نتصوَّر.
لا خلاف بين أهل العلم على أن البشر بدأوا حياتهم بقدراتٍ ذهنية مُتواضعة؛ ثم أخذت فى الارتقاء مع نموِّ الحاجات اليومية، واكتساب الخبرات والمهارات اللازمة لإشباعها. كلَّما وُضِع البشر أمام مسائل لا يعرفونها، وسياقات غير مألوفة، اشتغلت أدمغتهم على تذويب الوحشة وتحصيل المعرفة. التكنولوجيا تُوفّر بدائل سهلة، وتُعطّل بناء الفاعلية العقلية على وجهٍ يستجيب للتحديات. مُؤخّرًا بدأت السويد رحلة التراجع عن تعميم الأجهزة اللوحية على طُلابها، وعادت إلى الكتب الورقية. يبدأ التأثُّر من الذاكرة التى لم تعُد فى حاجة لتخزين المعلومات، والقدرات الحسابية المُتاحة بضغطة زِرّ، والميكانيكية المُوجزة فى إنجاز المهام، وأثر الألعاب فى تقديم الاستجابة الحركية على النشاط الذهنى والتفكير المنطقى. باختصار؛ الوسائل الجديدة تُقلّص الكفاءة العقلية للطلاب، وإن كان لا غنى عنها، اليوم وغدًا؛ فقد نكون مُطالَبين على الأقل بإعادة تخطيط المنظومة، وبناء مناهج وطرق تعلُّم تتناسب مع تلك التقنيات، ولا تأتى على حساب المهارات والمعارف العملية وصَقل الشخصية، ولا تُعمِّق العُزلة والاعتمادية على الآلات والبرمجيات.
كان التعليم قديمًا، ولعقودٍ، بابًا عريضًا للعبور الطبقى وتحسين الفاعلية الاجتماعية والاقتصادية. تبدَّل الزمن حولنا ولم تتغيَّر الرؤية، وإلى الآن يتواضع المجموع على اصطلاح «كُلّيات القمَّة» مرادفًا لمعانى الفرز الفئوى لا المعرفى؛ كأنه عالم الشمال الاستعلائى فى مواجهة مُجتمعات الجنوب المُتخلّفة.. لا تُعبِّر تلك النظرة عن إعلاء لقيمة العلم؛ إذ تستبعد مجالات حيوية مثل الزراعة وكليات العلوم، ولا عن انحياز للمعرفة وقد جنَّبت الآداب والقانون والدراسات الإنسانية. ولم يلحظ المُخلصون لتلك الرؤية «المتحفية» أن مراكز الثقل الاجتماعية والمالية والمهنية تحوَّلت نحو مجالات أخرى، يتقدَّم فيها الابتكار والرقمنة وريادة الأعمال والتكنولوجيا التطبيقية، على صيغة الأفندية أبناء الطبقة الوسطى المُحافظة. ما نزال نحتاج للأطباء والمُهندسين ودارسى السياسة؛ إلا أنهم لم يعودوا ذروة الهرم الاجتماعى. وليس مُجزيًا أن تُستهلَك أعمارُ الطلاب وسلامهم النفسى فى هذا السباق الموروث، ثم يكتشف الأهل أن أبناءهم لا يحوذون المكانة والوفرة التى سعوا إلى تحصيلها تحت شرط التمايز القديم.
تبدأ أزمة الثانوية العامة من الاسم. لعلَّ المعنى المباشر أنها حلقة ثانية تتلو التعليم «الأَوَّلى»؛ إلا أن من ضمن الدلالات اللغوية للتسمية أنها «هامشية» تتأخَّر فى الأهمية والقيمة على ما يسبقها. سواء اعتبرناها إشارة إلى «الثانوى/ الثانى»، أو «الثانوى/ الهامشى»، فالواقع أنها باتت تتقدَّم بقيّة المراحل فى الأولوية، وأصبحت المتن الذى تدور تروس المنظومة بكاملها لخدمته. لا يهتم أولياء الأمور فى السنوات الأولى بتجهيز أبنائهم معرفيًّا وتربويًّا من أجل الحياة، بقدر الانشغال بتحضيرهم للمعركة المستقبلية وفق شروط المواجهة الوجودية الكاسرة، وتحت سقف احتياجاتها المُرهقة مالاً وعافية، ولا ينظرون إلى هذا النفق بوصفه ممرًّا للعبور الطبيعى بين التكوين الإلزامى والتأهيل النوعى؛ إنما باعتباره محطَّة مفصليّة مطلوبة لذاتها؛ ثم لكل حدثٍ حديث. من سوءات ذلك أن الثانوية العامة لم تعد حلقةً تعليمية فعلاً، ولا خطوة أولى على طريق التمكين المعرفى وبدء التأهيل التخصُّصى بما يُلائم الطالب عقليًّا ونفسيًّا؛ إنما تحوَّلت إلى صراع يخوضه الأهل مع المنظومة، ولصالح الأعراف الاجتماعية، وعلى حساب الدارسين أنفسهم؛ ومن نتائجه أن تُشطَب قُدرات الأبناء واهتماماتهم وتفضيلاتهم؛ لصالح تطويعهم وصبِّهم فى قوالب مُعدَّة سلفًا. ليس من آثار ذلك أن نفقد كفاءات مُحتملة فى كثيرٍ من أبواب العلم والمعرفة فقط؛ إنما أن تتشوَّه معرفة الطلاب بأنفسهم، وأن ينخرطوا فى مساراتٍ قد لا يُحبّونها ولا يملكون أسباب الإجادة فيها؛ والمُحصِّلة إمَّا الاغتراب والقطيعة النفسية، أو الإخفاق الدراسى، أو الفشل العملى مُستقبلاً؛ حتى مع نجاح البعض فى المُناورة والعبور بنجاح دراسى ظاهر.
ما جرى مع طلاب الطبّ والحقوق هذا العام، عَرَضٌ لمرضٍ قديم. لعلّ آلافًا آخرين التحقوا بالكليات نفسها وتمكّنوا من العبور ودخول سوق العمل. تتضاعف الاحتمالات إذا نظرنا لدفعاتٍ كان طبيعيًّا أن يحصد طلابها نسبة 100% وما فوقها، بينما لا نرى أغلبهم بين المُتفوّقين لاحقًا فى جامعاتهم أو وظائفهم. ماذا عن السنوات الطويلة السابقة وما انطوت عليه من انفلات؟ وعن آلاف الأطباء والمُهندسين الذين أنتجتهم منظومة التحسين والمستوى الرفيع؟ إذا سألت طالبًا مُتقدّمًا فى المجموع «ويحسب ذلك تفوّقًا فى المعرفة» عن برنامجه اليومى؛ سيُحدّثك عن رضا الوالدين ومُقاطعة التليفزيون والترفيه والمواظبة على الدروس والأذكار والدعاء. التفوّق الحقيقى فى ناحية أخرى؛ قوامها الرُشد فى الجدّ والهزر، وثراء الشخصية بالأنشطة والمهارات المُكتسبة، والتوازن بين تحصيل المعلومات وبناء الفاعلية العقلية فى فرزها وتحليلها. لم تعد الذاكرة ميزةً ذهنية، ولا الحفظ قيمة معرفية، ولا التقليد الذى تُخلص له برامجنا الدراسية، الرهان المثالى فى عالم يُجلّ الابتكار ويُشجّع عليه. الأهالى ما يزالون مُخلصين للدروس الخصوصية، وحبس الأولاد فى قفص الثانوية عامًا كاملاً، والبحث عن شهادات تجلب الفخر أكثر ممّا تُحقّق الفرص. وفى سبيل ذلك يتململون من أى تطوير، ويسخطون لو انحازت الامتحانات للعقل لا الذاكرة، ويشكون الأعباء المالية ثم يُبادرون بحجز «السناتر» مع بدء إجازة الصيف. إنه سباق وهمى نحو قِمَم زائفة؛ ومقاومة اجتماعية خشنة تُعطّل كل طموحات التطوير وخُططه المُمكنة؛ رغم ذلك لا بديل عن استمرار المحاولة، إلى أن يقتنع الآباء بأن مستقبل أبنائهم يتأسَّس على غير ما كان عليه ماضيهم؛ لأنهم خُلقوا من أجل زمان آخر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة