تشاور الصدر الأعظم العثمانى مع وكلاء «سفراء» الدول فى الآستانة، واستقر رأيهم على خلع محمد على باشا من ولاية مصر، وأصدر السلطان فرمانا بذلك، وأرسله فورا إلى الإسكندرية، فوصل فى 22 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1840 وتم إبلاغه إلى محمد على، وفى اليوم التالى غادر وكلاء الدول الأراضى المصرية، فأصبحت مصر فى حالة حرب مع تركيا وحلفائها، حسبما يذكر عبدالرحمن الرافعى فى كتابه « عصر محمد على».
جاء «فرمان الخلع» بعد رفض محمد على قبول معاهدة لندن التى أبرمت يوم 15 يوليو 1840 بين إنجلترا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا، وكانت فى أعقاب تمدد محمد على خارج الحدود المصرية وخاصة سيطرته على بلاد الشام وهزيمة جيش الدولة العثمانية المرابط داخل حدود الأناضول، و«صار النصر المصرى يهدد الأمن الأوروبى»، حسبما يذكر الدكتور محمد عبدالستار البدرى فى كتابه «المواجهة المصرية الأوروبية فى عهد محمد على».
يذكر «الرافعى» شروط «معاهدة لندن»، وهى «أن يخوَّل محمد على وحلفاؤه حكم مصر الوراثى، ويكون له مدة حياته حكم المنطقة الجنوبية من سوريا المعروفة بولاية عكا ( فلسطين) بما فيها مدينة عكا ذاتها وقلعتها، بشرط أن يقبل ذلك فى مدة لا تتجاوز عشرة أيام من تاريخ تبليغه هذا القرار، ويشفع قبوله بإخلاء جنوده من جزيرة كربت وبلاد العرب وإقليم أدنة وسائر البلاد العثمانية عدا ولاية عكا، وأن يعيد إلى تركيا أسطولها».
ونصت المعاهدة على أنه إذا لم يقبل هذا القرار فى مدة عشرة أيام يحرم الحكم على ولاية عكا، ويمهل عشرة أيام أخرى لقبول الحكم الوراثى لمصر وسحب جنوده من جميع البلاد العثمانية وإرجاع الأسطول العثمانى، فإذا انقضت هذه المهلة دون قبول تلك الشروط كان السلطان فى حل من حرمانه ولاية مصر، واشترطت المعاهدة أن يدفع محمد على باشا جزية سنوية للباب العالى تتبع فى نسبتها البلاد التى تعهد إليه إدارتها، ويتولى محمد على وخلفاؤه جباية الضرائب باسم السلطان على أن يؤدوا الجزية، ويتولون الإنفاق على الإدارة العسكرية والمدنية فى البلاد التى يحكمونها، وتعد قوات مصر البرية والبحرية جزءا من قوات السلطة العثمانية ومعدة لخدمتها.
هددت المعاهدة محمد على، ونصت: «يتكفل الحلفاء فى حالة رفض محمد باشا لتلك الشروط أن يلجأوا إلى وسائل القوة لتنفيذها، وتتعهد إنجلترا والنمسا فى خلال ذلك أن تتخذ باسم الحلفاء بناء على طلب السلطان كل الوسائل لقطع المواصلات بين مصر وسوريا، ومنع وصول المدد من إحداهما للأخرى، وتعضيد الرعايا العثمانيين الذين يريدون خلع طاعة الحكومة المصرية والرجوع إلى الحكم العثمانى وإمدادهم بكل ما لديهم من المساعدات، وإذا لم يذعن محمد على للشروط المتقدمة وجرد قواته البرية والبحرية على الآستانة فيتعهد الحلفاء بأن يتخذوا بناء على طلب السلطان كل الوسائل لحماية عرشه وجعل الآستانة بمأمن من كل اعتداء».
يذكر الرافعى، أن فرنسا فوجئت بخبر هذه المعاهدة فاعتبرتها تحديا لها، وتوترت علاقتها مع إنجلترا، وحرضت محمد على لرفضها، لكنها تراجعت وتركت مصر وحدها، ويرى محمد عبدالستار البدرى، أن هذه المعاهدة كانت تهدف إلى تقليم أظافر محمد على بتقويض دولته القائمة، والحيلولة دون قيامه بتهديد الأمن والتوازنات الأوروبية الحساسة متمثلة فى الدولة العثمانية، واتخذ الحلفاء من هذه المعاهدة دستورا للتدخل فى المسألة المصرية، وإذا ما فشلت فإن التدخل العسكرى كان سيأتى لا مناص.
أرسل السلطان العثمانى مندوبه «رفعت بك» إلى الإسكندرية ووصلها يوم 11 أغسطس 1840، والتقى بوكلاء الدول المتحالفة، ويذكر الرافعى، أنهم التقوا بمحمد على يوم 16 أغسطس فى سراى رأس التين، وأبلغوه نبأ المعاهدة، فغضب وأغلظ له فى الجواب، وأقسم ألا يتنازل عن أى أرض من أملاكه، لكنهم أمهلوه عشرة أيام، ودونوا له مذكرة بتوقيعاتهم فيها ما قالوه، وتحذيرهم من عواقب الامتناع، ولما انقضى الموعد ذهبوا إليه، فوجدوه على رفضه بل أشد تمسكا.
يضيف الرافعى، أنهم ذهبوا إليه فى اليوم التالى، فاستشاط غضبا وأجابهم بأنه سيزحف إلى الآستانة إذا تجددت الحرب، ولما علم بعزم سفر رفعت بك، قال لوكلاء الدول الأربع: «أتعشم أن ترحلوا معه»، ويؤكد الرافعى، أن رفعت بك بقى فى الإسكندرية مهلة عشرة أيام جديدة، وخلالها تسلم كتابا من محمد على يعرض فيه الاستعداد لإنهاء الخلاف مع تركيا دون تدخل الدول الأجنبية، وتنازله عن ولاية أدنة وجزيرة كربت وبلاد جزيرة العرب، وان يكتفى بملك مصر الوراثى وحكم سوريا مدة حياته
غادر «رفعت بك» الإسكندرية ومعه خطاب محمد على إلى السلطان الذى تشاور مع سفراء الدول الكبرى فى الآستانة، واستقر رأيهم على خلع محمد على من ولاية مصر، لكن الباشا تأهب للحرب، وبادر إلى تقوية استحكامات الإسكندرية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة