غاص فى الحلم لمُنتهاه؛ حتى وصل إلى قعر الأمانى وفتح الأصداف المُغلقة، ولم يكن بعضها أو كثيرها مطويًّا على لآلئ؛ بل على فخاخٍ ومكائد وبارودٍ ودم. كانت التجربة غَوصًا فى بطن السرديّة العربية؛ لا تحليقًا فى فضائها، وربما لهذا لم يرَ مكرَ الخريطة، ولم ينتبه إلى التواءات الطرق. كان جمال عبدالناصر ثوريًّا رومانسيًّا مذبوحًا بالتفاؤل، وحالمًا عتيدًا من عُتاة الممسوسين بالأمل، اعتقادًا أو اعتباطًا، وقد أنفق كل ما فى روحه من شوقٍ وجَهد وصبر، وما فى قلبه من مَودّةٍ ورجاء، وعاد من الحرب ببندقيّةٍ ذابلة، وجسدٍ مُسخن بالجراح، واعتلالٍ فى الشرايين، ورأسٍ يشتعل شيبًا قبل الأوان؛ إنما بروحٍ معنوية تُطاول السماء، ورغبةٍ صُلبة فى الصمود والمُعافرة، واقتدارٍ فذٍّ على صيانة مشاعر العزّة والفَخَار، وعلى بثّ الطمأنينة فى صدور الناس، وقتما كانوا مهزومين قهرًا، وبعدما انتصروا عنادًا وتحدّيًّا، وإلى اليوم وقد انقضت خمسة عقود ونيِّف على انطفاء حضوره المادى، وتوهُّج رمزيّته الوطنية، الباقية إلى ما يفوق أضعاف عمره، وأعمار مُؤيِّديه وكارهيه على السواء.
ثلاثٌ وخمسون سنة انقضت على رحيل الزعيم؛ ولعلّه أكثر حضورًا اليوم ممّا كان عليه فى سنوات السُّلطة. وقتها كان ضابطًا وسيط الرُتبة، ابتكر مشروعًا للتحرُّر، وصار رئيسًا تحكمه سياسة الداخل وتوازنات الخارج؛ أما الآن فقد زالت عنه النجوم والنياشين وهالة الحُكم، وتحلَّل من أثقال الأيديولوجيا وتشابكات العداوة والتحالفات، وصار أيقونةً لها من الرمزية والتجريد ما يتجاوز أُفق الدراما العادية، وينخلع من سطوة الستينيات واحتدامها؛ ليصفو من عوارض الماضى، ويتقدَّم رائقًا وشفيفًا كتجسيدٍ حىٍّ لكلّ ما أحرزناه وما نتطلَّع إليه. صار «ناصر» عنوانًا عريضًا على الاستقلال ومُجابهة الامبريالية، ومساعى النهضة والبناء، وعلى شىءٍ من طموحات عالم الجنوب فى وجه التغوُّل الشمالى، والاجتهاد فى السباحة بين الموج المُتلاطم لمُناورة دوَّامة الاستقطاب بين شرق وغرب. ليس مجانيًّا أن تكون ذكراه خضراء فى طينة الوعى المصرى، ولا أن تُرفَع صورُه ويتردَّد اسمه إلى اليوم بين الشعوب المهيضة، فى أفريقيا وآسيا وإلى عُمق أمريكا اللاتينية.
كان الشاعر الفلسطينى محمود درويش صادقًا تمامًا حينما رثاه فى قصيدة بديعة: «ولستَ نبيًّا؛ ولكن ظلَّك أخضر». وعلاقة عبدالناصر بالشعراء والمُثقفين ممّا يلفت إلى استحقاق النظر للتجربة من زوايا مُغايرة؛ إذ على قدر ما سجَّل بعضهم من ملاحظاتٍ على شخصه ومشروعه، تحوَّل أغلبهم إلى جوقةِ إنشادٍ طيِّعةٍ وحميمية فى موكب الرحيل. قبل سنواتٍ طويلة سمعتُ شهادةً مُهمّة من المُفكّر اليسارى الراحل محمود أمين العالم، فبعد نقدٍ وتفكيكٍ لبعض عناصر الحالة الناصرية، استلهم عبارة خالد بن الوليد قائلاً: «ما من مَوضعٍ فى جسدى يخلو من تواقيع سجون الستينيات؛ لكننى أُحبّ هذا الرجل». وكذلك كان أحمد فؤاد نجم، وقد حاكت صدره مرارة منه؛ لكنه ودَّعه عند الضريح بمرثيّة من أبدع ما يكون «واحنا نبينا كده من ضلعنا نابت/ لا من سماهم سقط ولا من مَرَة شابت». وكان العراقى الكبير مهدى الجواهرى أعمق من قاربَ الحالة واعتصر جوهرها: «لا يعصم المجدُ الرجالَ وإنما/ كان العظيم المجد والأخطاء»، وعلى الدَّرب جاء نزار قبّانى: «قتلناك يا آخر الأنبياء»، وصلاح عبدالصبور: «كان الملاذ لهم من الليل البهيم»، وأحمد عبدالمعطى حجازى: «قلنا لك اصنع كما تشتهى/ وأعد للمدينة جوهرة العدل»، ومحمد الفيتورى: «الآن يكون الحزن عليك عظيمًا»، ولمعت غنائيات صلاح جاهين، ولخّص الأبنودى ديمومة الحلم والأمل عندما قال «يعيش جمال حتى فى موته». أغلب هؤلاء لم يكونوا من دراويش ناصر، ولبعضهم مُلاحظاتٌ تمسّ عصبَ الفكرة ودعائمَ فلسفتها؛ إنما على ما يبدو كان الصدق فاصلاً بين النقد والنقض، وبين المُخالفة العارضة والعداء المُستحكم.
ميزة تجربة «عبدالناصر» أنها أنضجت ما كان قبلها من تجارب هشّة. لم يبتدع شيئًا من العدم؛ إنما تلقَّى رسائل الواقع، وأعاد صياغتها على وجهٍ مفهوم وقابل للتحقُّق. هكذا أنجزت ثورة يوليو حلم الاستقلال الذى أخفق فيه السياسيّون لنصف قرنٍ من المحاولات والانتخابات، وإبرام المُعاهدات ثم العودة عنها. ولم يكن أوّلَ دُعاة القومية العربية؛ إذ سبقته تنظيرات ساطع الحصرى، وشعارات «البعث» فى شقّيه السورى والعراقى.. من تمزيع الخريطة فى «سايكس بيكو»، إلى قضم فلسطين بأنياب «وعد بلفور»، وإحباط حلم المملكة الواحدة للشريف حسين، وإزاحة الملك فيصل من دمشق بسلاح فرنسا، ثم تنصيبه على بغداد بسلاح بريطانيا، كانت عناصر الضعف تتشكَّل وتستفحل، وآمال التشافى تتصاعد فى نفوس العرب؛ حتى جاء «ناصر» وثورته المصرية ليُقدّما مُعادلاً وطنيًّا صافيًا لفَرض الإرادة وإنجاز الأحلام، فامتدَّت عدوى الكرامة كالنار فى الهشيم، وأُنجزت أوسع موجةِ تحرُّرٍ إقليمية، عمودها الجيوش الوطنية، وقاعدتها الشعوب التى طالما نزفت خيرها جبرًا، وانتظرت على قارعة الوقت رسولاً يُوقف النزيف ويُضمّد الجراح.
وصل قطار العروبة إلى أكثر محطَّاته تقدُّمًا بالوحدة المصرية السورية، بعد أقل من ستّ سنوات على ثورة يوليو. حملت الخطوة وعدًا بلملمة شظايا الخريطة فى فسيفسائيةٍ قادرةٍ على تخليق معنى مُكتمل ومفهوم، قبل أن تنتكس المسيرة بفعل الشِّقاقات البعثيّة وما فيها من مطامع شخصيّة وفوائض دعاية حنجوريّة. كان سبتمبر شهر الأمل والمفازة فى مسيرة عبدالناصر، إذ زرع فيه نبتته الأولى عندما أصدر قانون الإصلاح الزراعى بعد ستَّة أسابيع فقط من الثورة؛ لكن بوقوع الطلاق مع سوريا أصبح سبتمبر نذير الشؤم، الذى سيحمل له لاحقًا كل ما يُسقِم البدن ويُوهِن الروح، إلى أن كانت أحداث «أيلول الأسود» فى الأردن تعبيرًا عن انحراف القضية الفلسطينية، وعن فقدان البوصلة، واعتلال المناعة القومية إلى حدٍّ يفوق إمكانية العلاج، وخُتِمَت بشائر الشهر بفجيعة الرحيل، كما لو كان غياب الزعيم ختمَ الاعتماد الأخير لإزهاق الحلم العربى.
قبل الجمهورية العربية المُتحدة كانت أزمات المنطقة تُرَدّ إلى مُؤامرات الاستعمار، وبعدها لم يُعد هذا التفسير صالحًا للبقاء؛ حتى لو اعتمده «عبدالناصر» نفسه. السوريون برَّروا انشقاقهم العدائى بالوصاية والمُعاملة الدونية، والقاهرة اعتبرته تحصيلاً لجهود الامبريالية التى لم تهدأ؛ ولعلَّ رومانسية «ناصر» دفعته إلى ذلك هروبًا من الإقرار بالخلل البنيوى، أو بارتباك الروافع السياسية والمُؤسَّسية التى استندت إليها دعوته القومية. المُؤكَّد أنه لم يكن مُغيّبًا عن سياق المنطقة، ولا رخاوة أبنيتها، وثِقَل مواريث التشاحن والبغضاء بين قُواها الفاعلة؛ إنما كان يتهرَّب من الإقرار بتعجُّل الحلم قبل إنضاج بيئةٍ حاضنةٍ تُحسن استقباله ورعايته، أو يُنكر أن فى الأُمميّة المشرقيّة شقوقًا لا تكفى النيَّة الحسنة لسدِّها. يكشف ذلك عن ملمحٍ آخر فى شخصية الزعيم؛ كأنه طالعٌ من تراجيديّات الإغريق وأساطيرهم، وعلى قسوة ما يلفُّه من مصاعب ونكايات، تنطلق روحه بعيدًا بما يفوق خُطاه، وما تسمح به الظروف والخرائط وضبابية المسالك المُمكنة أو المُستعصية.
كان «عبدالناصر» نموذجًا مثاليًّا للبطل التراجيدى. يُمكن أن تُعاين بعض ظلّه ورائحته فى الإلياذة، وفى سيرة سيف بن ذى يزن، وفى نكبة الحسين وبكائية كربلاء المفتوحة منذ أربعة عشر قرنًا. تنطبق على الزعيم المصرى شروط أرسطو، فى صلاحية القيم الدرامية، وبروز الرجولة، ومُشاكلة الواقع، وأخيرًا الثبات والانسجام مع النفس وخياراتها. كان «جمال» يمضى إلى حتفه واثقًا، يدوس الشوك بقدمٍ ثقيلة على أمل أن تنفتح له المُروج والبساتين فى آخر الطريق. إنّ خصومَه الذين وصموه بالسذاجة والتهوُّر كانوا قصارَ الرؤية وضعافَ الخُطى، ولم يروا ما كان يراه على الحقيقة والخيال. صحيحٌ أنه نزفَ أنفاسَه ببطءٍ على مذبح الثورة وحُلم القومية وعشمه فى خريطة ناضجة؛ إلا أنه ترك فى الناس ما لم يتركه غيره، وخالط التراب بموعدة الإنبات والإثمار؛ وإن طالت مواسم القحط والجفاف. اليوم، لا يُمكن النظر إلى الواقع العربى، بانتصاراته أو مراراته؛ بمعزلٍ عن ميراث الرجل الذى حفر خندقًا فى لحم التاريخ، وحوّل نهر الدراما العربية بكامله إلى مساراتٍ بديلة؛ لم تكن لتُشَقّ أو تُجرّبها مياهنا لولا أنه جاء فى الزمان والمكان المُناسبين تمامًا. يطيبُ لبعض الناصريِّين القول إن المشروع أُجهِض لأنه كان مُستقبليًّا أكثر ممّا تحتمل المنطقة؛ والواقع أنه ما كان له أن ينجح لو جاء بعد عقودٍ أو قرون، أو قبل ذلك بقليلٍ أو كثير؛ بل إن إخفاقه كان القاعدة التى انبنت عليها معرفةٌ جديدة بالذات، وانتقالةٌ حداثيّة واجبةٌ من أَسْر الأُصوليّة القبائلية، ومواريث العثمانية والوهابية والمملوكية؛ إلى بروز القومية بمعناها الوطنى، واكتمال معمارها، وسبك لُغتها الواعية فى مُخاطبة الجوار والعالم.
يُؤخَذ على «الرجل الاستثناء» أنه انصرف إلى القضايا الكبرى، وأهمل أمورًا ركيزةً بدعوى أنها من الصغائر؛ ولو صلحت ربما صلح الجسد كله. يُمكن أن يُلام «عبدالناصر» على شىءٍ من الشمولية والتسلُّط، وعلى مُجافاة الديمقراطية نُزوعًا إلى القولبة والتجييش لفائدة غايةٍ عُليا. ومدخلُ النقد أنه كان يحوز شعبيّةً طاغيةً لا مراء فيها، وظلَّت على منسوبها العالى فى الانتصارات والانكسارات؛ لذا كان مضمونًا له أن يظل فى واجهة المشهد بالصندوق والأصوات، ولم يكن له مُنافسٌ ولا أحدَ يُطاوله فى الكاريزما وجاذبيّة الخطاب؛ أى أنه لم يكن ليفقد موقعَه، وبجوار ذلك سيترك من بعده تجربةً راشدةً فى الحرية وتداول السُّلطة. وقد يحتمل الأمرُ رؤىً عدّةً فى مسائل تفتيت الملكية الزراعية وإلغاء الأحزاب وتأميم السياسة والتوسُّع فى التعليم كميًّا على حساب الكَيف، وكُلّها ممّا تتجاور فيه الآراء دون قُدرةٍ على الحسم المُتيقّن لصلاحية الخيارات. لكن ما دون ذلك فى نقد التجربة إنما هو من التزيُّد والإفراط؛ إذ لم يكن مسؤولاً عن العدوان الثلاثى فى 1956، وقد أعملَ حقَّه الوطنى فى استخلاص أُصول الدولة من مخالب خصومها عندما قرّر تأميم القناة، ولم يكن مسؤولاً عن «نكسة يونيو» وكانت خُطّتها قد وُضعت منذ إحباط الهجمة الفرنسية البريطانية الإسرائيلية، ولم يُبدِّد ثروات مصر فى دعم حركات التحرُّر؛ إنما أعاد تفعيل دورها وتقوية حضورها إقليميًّا وعالميًّا، كما لم يُخفق فى حرب اليمن؛ بل أحرز غايته كاملةً بتعويق الهجمة الرجعية وصيانة النظام الجمهورى. وفضلاً على ذلك أنجز أثرًا اقتصاديًّا وتنمويًّا لا يُمكن إنكاره، وكانت الخُطط الخمسية طوفانًا هادرًا من التحوّلات، فى الاستزراع والعمران والتصنيع. وأهم من ذلك بناء الشخصية الوطنية، وتهذيب الهوية، واستعادة الثقة فى النفس؛ بعدما سُحِقت طوال قرون من غزو الأقارب والأباعد.
لستُ ناصريًّا، لا بالمعتقد ولا التنظيم؛ لكننى أُحبّ عبدالناصر محبّةً صافية، كما أحبّه كثيرون من خصومه وأعدائه والمُحايدين فى النظر لتجربته. مضى الرجل إلى ربِّه قبل سنواتٍ تفوق ما قضاه فى حلبة الحياة؛ إذ عاش اثنتين وخمسين سنة فقط؛ لكنّه ما زال قريبًا من ملايين المصريين وأغلبهم لم يُعاصروه ولم يعيشوا أيامه بفخرها أو مرارتها، ولم يستفيدوا مُباشرةً ممّا أنجز، كما لم يتضرَّروا مُباشرة ممّا أخفق فيه. ليس من المازوخية أو المرض بـ«متلازمة ستكهولهم» أن تُحبَّ كلُّ تلك الجموع رجلاً مات قبل أن يُولَدوا، وإن صدق استعذابُ الألم وأُمثولة «القط يحبّ خنّاقه» على بعض اليسار واليمين ممّن يُقيّمون التجربة تقييمًا إيجابيًّا بعد ما عانوه فيها؛ فيستحيل بالعقل والمنطق أن يصدق فى حقِّ شعبٍ كامل. كل الحكاية أن جمال عبدالناصر حسين، ابن مُوظّف البريد الفقير، وضابط الجيش الجاد، وربّ الأسرة المُحافِظ، ورئيس الدولة الطَموح، كان صادقًا فى كل مراحله وتحوّلاته؛ عندما شارك مُراهقًا فى تظاهرات الطلاب، ومقاتلاً فى حرب فلسطين، وقائدًا فى ثورة يوليو، وزعيمًا فى حُلمٍ عربى كبير، تحقّقت بعض فصوله وانطفأت بقيّتها. كان مُخلصًا للناس وأمينًا على آمالهم، فصدّقوه وتعهّدوا سيرته بالحفظ والدرس والتقدير، ومنحوه حياةً خالدة تفوق ما يحلم به أىُّ ساعٍ للخلود، وهدايا الشعوب دائمًا على قدرِ أصحابها، فسلامًا على رجلٍ ضاقت به البيوت والطرقات وعقول الساسة وبارونات المال والمصالح، وانفتحت له القلوب والأرواح، وأحسب أنها لن تُغلَق أبدًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة