جرت العادة أنه فى اليوم العالمى للصحافة أن تصدر تقارير وتصنيفات وقوائم، وبيانات متنوعة، ترفع بعض الدول إلى مصاف متقدمة وتلقى بالأخرى إلى الذيل، وفى الواقع أن الازدواجية والانحياز كانا دائما علامة من علامات التعامل مع حرية الصحافة، حيث يتم تسييس التقارير طبقا للقرب أو البعد من مصالح هذه الدول الكبرى التى تحتوى مطابخ إصدار هذه التقارير، التى كانت دائما منحازة، ومزدوجة، لدرجة أنها تجاهلت على مدى عقود القتل العمد الذى تمارسه إسرائيل ضد الصحفيين فى الأراضى المحتلة، بجانب حروب الإبادة والعنصرية التى تتعامل بها سلطات الاحتلال على مدى سنوات.
وحسب لجنة حماية الصحفيين وخلال الفترة من 7 أكتوبر 2023 حتى 17 أبريل 2024، تؤكد اللجنة أن 99 صحفيا قتلوا، منهم 95 فلسطينيا، ولبنانيان، كما أصيب 16 صحفيا فلسطينيا بجروح جراء تفجيرات وقصف وإطلاق نار من قِبل جيش الاحتلال، وصنف المؤشر السياسى لحرية الصحافة 2024 الأراضى الفلسطينية على أنها الأكثر خطورة بالنسبة للصحفيين، حيث تدفع ثمنا باهظا بالأرواح والخسائر، ويلفت المؤشر إلى أن الجيش الإسرائيلى «قتل حتى الآن أكثر من 100 صحفى فى غزة، فى سياق قمع التقارير الواردة من غزة بينما تتسلل المعلومات المضللة إلى إعلامها».
والواقع أن هذه التقارير تبدو كأنها استثناء، بينما الأمر يتجاوز الحرب الحالية إلى سلوك عام من قبل الإعلام الغربى والأمريكى الذى يمارس الانحياز دائما، لكنه ربما فى هذه المرة يبدو الأمر أكثر وضوحا، بجانب أدوات التواصل والبدائل التى يتيحها عصر الاتصالات، أو ما يسمى الإعلام البديل، بالرغم من انحياز فيس بوك وتوابعه للاحتلال وفرض أنواع من الحظر على كل ما يتعلق بالعدوان، بل وحتى أدوات التواصل مثل فيس بوك فقد تعاملت بانحياز ووجهت الخوارزميات ضد غزة أو التعاطف مع الأطفال والشهداء.
مع الحرب على غزة، تستمر الحرب الدعائية من منصات الإعلام الغربى، والأمريكى خصوصا، والتى تعكس انحيازا ينسف أى حديث عن المهنية والحياد، أو حتى التمسك بالحد الأدنى من الإنسانية تعاطفا مع أطفال غزة، وهو أمر ظهر مع تدمير العراق وتبنى أدلة مزيفة، أو مع حروب أنتجت الإرهاب، وفى غزة كان الانحياز الغربى والأمريكى للرواية الإسرائيلية والصهيونية واضحا، وهى ليست المرة الأولى التى يتم فيها توظيف المنصات الافتراضية فى الحرب، وتتخذ موقفا منحازا للعدوان، لكن الجديد خلال المواجهات الأخيرة، هو انحياز منصات التواصل الاجتماعى الكبرى خاصة «ميتا» أو فيس بوك وتوابعه إنستجرام وغيره، ليس فقط الانحياز للعدوان، بل أيضا لترويج الكراهية طالما كانت ضد الفلسطينيين، بينما تحذف أى منشورات تتعاطف مع أطفال غزة حتى لو خلت من أى تحريض، واعترفت شركة «ميتا» أن بعض تلك المنشورات تم إخفاؤها وزعمت وجود خطأ تقنى، لكن اتضح أن هذه المواقع توظف الخوارزميات لخدمة الفوضى، والكراهية وحجب ما يخالف اتجاهات الولايات المتحدة.
وفى 30 يونيو 2022 اتهمت لجنة دعم الصحفيين فى فلسطين مواقع التواصل الاجتماعى، على اختلاف أنواعها وعدد أسمائها، باتباع سياسة الانحياز لإسرائيل من خلال تقييد الوصول إلى المحتوى الفلسطينى ومحاربته، وقالت اللجنة، بمناسبة الاحتفالات الدولية باليوم العالمى لمواقع التواصل الاجتماعى، إنه بات واضحا أن إدارات مواقع التواصل الاجتماعى تخضع للضغوط والسياسات الإسرائيلية فى طمس الصوت الفلسطينى ووضع قيود على أى محتوى يُظهر جرائم الاحتلال بحق الشعب الفلسطينى ومقدساته، وتقوم بتقييد الوصول إلى المحتوى الفلسطينى ومحاربته، وأكدت لجنة دعم الصحفيين أنها سجلت أكثر من 98 انتهاكا بحق المحتوى الفلسطينى، حيث أقدمت شركات مواقع التواصل الاجتماعى على حذف وحظر وتقييد الكثير من المواقع الإخبارية والقنوات عبر «يوتيوب» و«إنستجرام» و«فيس بوك».
وبالتالى هى ليست المرة الأولى أو الأخيرة التى يتخلى فيها الإعلام الغربى عن مهنيته و«حقوقيته» ومبادئه عندما يتعلق الأمر بأطفال أبرياء سقطوا تحت القصف، وفى مستشفيات تم قصفها، ويتم حجب منشورات من يريد التضامن مع آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى من الأطفال والنساء والمدنيين فى غزة، الذين يواجهون حرب إبادة وتجويع وحصار، ويكشف العالم الافتراضى السيبرانى، عن انحياز آخر وفج ضد الضحايا والحقيقة، وقد وصفتها سابقا بأنها «خوارزميات ضد الإنسانية».
كل هذا يعيدنا إلى القضية الأساسية، وهى الانحياز والازدواجية الدائمة ضد كل ما هو ضد مصالح أمريكا والإعلام الغربى، «هناك رقابة غير مرئية تعيد تشكيل الإعلام الغربى لصالح السياسة والتوسع والتلاعب»، هكذا تحدث الصحفى المخضرم والمراسل الحربى ومخرج الوثائقيات الأسترالى الأصل جون بلجر، فى كتابه «الحرية فى المرة القادمة»، الذى يكشف فيه كيف يمارس الإعلام الغربى بأغلبيته لعبة التهميش والإبراز، يضخم من أقل تهديد لأمنه، ويتجاهل عشرات الآلاف من الضحايا خارج أوروبا، المهاجم إرهابى إذا هاجم فى أوروبا، ولكنه متمرد إذا تعلق الأمر بعمل إرهابى فى مصر أو أى دولة عربية، لقد وصفت بعض الصحف التى يفترض أنها كبرى إرهابيى داعش أنهم معارضون، كما تم تجاهل ما يقرب من 36 ألف شهيد وعشرات الآلاف من الجرحى أغلبهم أطفال ونساء فى غزة بعضهم قتل فى المستشفيات، ومنع الغذاء والدواء عن غزة، كل هذا وسط صمت مستمر، ربما لم يكسره سوى أصوات نجحت فى كسر حصار الإعلام والازدواجية، التى تتحدث عن الحرية وتشارك فى انتهاكها، وتسييسها.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة