وليد فكرى

من أوزوريس إلى الحسين.. المصريون والعائلات المقدسة

الثلاثاء، 23 يوليو 2024 01:30 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

فى كل سنة فى مثل تلك الأيام، حيث نشهد ذكرى استشهاد الإمام الحسين، أجدنى أتأمل ذلك التفاعل العاطفى من المصريين مع ذكراه، تفاعل تلقائى عفوى غير متكلف بارتباط بطقوس مذهبية ولا تداخلات سياسية.. فقط مزيج من الحب والتعاطف.  أوزوريس.. السيد المسيح عليه السلام.. الإمام الحسين.. إيزيس.. السيدة العذراء.. السيدة زينب، كأنه يوجد نمط خاص لاختيار المصريين من يتعلقون بهم من الشخصيات الدينية، وتعلق المصرى بأى من تلك الشخصيات لا يقف عند حدود ما يمكننى وصفه بـ«الرصانة والوقار الدينيين»، وإنما تراه يتعامل معه بحميمية ومودة وعفوية من يعامل به بعض أهل بيته.

دائما يوجد نموذج «البطل المضحى بحياته فى سبيل تحقق الخير لغيره».. من أوزوريس الذى ألقى فى النيل ثم استعيد جثمانه وقطع لأجزاء دفنت متفرقة فى أنحاء مصر لتمنح تربتها البركة والخصوبة، والمسيح عيسى بن مريم الذى ضحى براحته وأمانه، وحمل روحه على كفه فى مواجهة كل من نفاق تجار الدين من اليهود، واليد الباطشة للإمبراطورية الرومانية، والحسين الذى وقف بين قلة من أتباعه فى مواجهة جيش يزيد بحديده وناره.

كل منهم كان يريد الخلاص والنجاة للناس، فأوزوريس - حسبما تذكر أسطورته - بعد أن علّم المصريين الزراعة والكتابة والبناء والفلك والتحكم بالنيل، وضع زوجته إيزيس على عرشه نائبة عنه، وسافر ليطوف بأنحاء العالم، ينقل معارفه وعلومه للبشر، ليخرجهم من ظلمات الهمجية، ويعلمهم كيف يقيمون الحضارات.

والمسيح ترك حضن أمه الدافئ، وامتطى حماره وراح يطوف بالمدن والقرى وينادى فى الناس أن يتوبوا فقد اقترب ملكوت السماء، ووقف صارما فى مواجهة من حولوا الدين إلى تجارة وبيت الله إلى سوق، ومن غالوا فى التدين إلى حد التشدد، وقالوا: «من ليس مثلنا كافر!» إلى حد أنهم كانوا ينتهكون حرمات البيوت ويتلصصون على الناس بحجة «مراقبة تطبيق الشريعة»، فصار الناس فى ضياع بين هؤلاء وهؤلاء، وكادوا أن ييأسوا من أن يجدوا الطريق إلى الله، فجاءهم المسيح لينتشلهم من تلك الدوامة.

والحسين - ولنأخذ هنا وقفة طويلة معه - غادر مأمنه فى كل من مكة والمدينة، حيث أنصاره ومحبوه و «عزوته»، وتحرك فى قلة من أتباعه، واتخذ طريق السفر العسير إلى العراق، بعد أن استنصر به الرافضون حكم يزيد بن معاوية، ورغم بلوغه أمر خذلانهم له، ورغم أن أناسا من أهل العقل والثقة أرادوا إثناءه عما أراد، كعبدالله بن عباس بن عبدالمطلب، وعبدالله بن عمر بن الخطاب الذى كأنما كان يرى من بين أستار الغيب حين ضمه مودعا وهو يقول: «أستودعك الله من قتيل»، وحتى الفرزدق الشاعر الذى قال له عبارته الشهيرة: «قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بنى أمية»، فلم يثنه هذا عن عزمه.

لم يكن ذلك عن اندفاع انفعالى أعمى كما قد يحسب البعض ممن بلغ بعضهم أن قال: «إن الحسين قد قتل بشرع جده لخروجه على ولى الأمر»، ولا كان عن حماس ثورى، كما يحب أن يروج أولئك الذين لا يرون فى الحياة شيئا سوى الثورات، وكأنما هى غاية لذاتها.

وإنما كان الحسين يدرك حقيقة واضحة هى أن بنى أمية لن يتركوه إلا مبايعا لهم أو قتيلا بسيوفهم ولو تعلق بأستار الكعبة أو اعتصم بقبر جده الرسول، فهو يخشى أن تنتهك حرمة المدينتين المقدستين - مكة والمدينة - بسبب ملاحقة بنى أمية له، فلهذا قال لمن حاولوا إثناءه عن السفر: «لئن قتلت خارجا منها بشبر أخب إلى أن أقتل داخلا منها بشبر »، وقد كان بعيد النظر حقا، فبعد فاجعة استشهاده وكثير من آل بيته وأنصاره فى كربلاء «61 هجريا/680م» بسنتين، داهم جيش يزيد المدينة المنورة، وأوقع فيها مذبحة مرعبة فيما يعرف بـ«واقعة الحرة»، «الحرة هى الحجارة البركانية السوداء التى اشتهرت بها المدينة».

وهو لا يريد ممن يدعون نصرتهم له أن يغروا أحدا بعده من آل بيته فيهلكوه، فأراد امتحان صدقهم، فإن تبين كذبهم - وقد تبين - صار فى ذلك تحذير للناس منهم.

أراد كذلك إقامة الحجة على أعدائه، فقال لهم حين حاصروه: إنه يعرض عليهم ثلاثة اختيارات، أن يعود من حيث أتى، أو أن يذهب إلى دمشق - عاصمة الأمويين - فيلتقى يزيدا ويتفاوضا، أو أن يفتحوا له طريقا لبعض ثغور المسلمين ليجاهد فى سبيل الله ويقضى باقى حياته فى ذلك.. فأبوا إلا قتله.

كل هذا يقول إن الحسين حين خرج كان يتوقع مصيره، لكنه لم ير حلا آخر لينقذ الآخرين مما يتهددهم إلا أن يضحى بنفسه عن طيب خاطر.

وكل من الثلاثة - أوزوريس والمسيح والحسين - تعرضوا للخيانة، فأوزوريس خانه أخوه الإله الشرير «ست»، والمسيح خانه تابعه يهوذا الإسخريوطى بحفنة من العملات، والحسين خانه من راسلوه فدعوه ووعدوه النصر ثم فوجئ بهم فى جيش يزيد يرفعون سيوفهم عليه.

وللنساء نصيب من حب المصريين الذين تحس أنهم - باختلاف أعمارهم - يبحثون دائما عن «الأم» التى يتشبثون بطرف ثوبها.

فهذه إيزيس، الأم الكبرى عظيمة الحيلة والدهاء والسحر، التى علمت الأمهات كيفية علاج لدغات العقارب لأطفالهن، ولقنتهن الرقى لحماية الطفل من الأرواح السيئة وعين الحاسد، وهى الراعية لطفلها حورس حتى يكبر ويشتد عوده، ويصبح ملوك مصر القديمة تجسيدا له، فهى عمليا أم الملوك بل وأم المصريين جميعا، وحتى فى تشييع الميت إلى مثواه الأخير كانت إيزيس - مع أختها نفتيس - قدوة للمصريات، فمشهد النائحات المتشحات بالسواد فى الجنائز، وترديد بعضهن أقوال مثل «يا اخويا.. يا سبعى.. يا راجلى» فى بعض قرى مصر وأوساطها الشعبية، ما هو إلا تكرار لما فعلته إيزيس بعد انتشالها جسد أوزوريس.

وهذه السيدة مريم العذراء، إذ يروعها خبر أمر ملك اليهود هيرودوس بقتل الأطفال دون العامين فى بيت لحم، بسبب نبوءة بميلاد طفل يهدد ملكه، فتحمل العذراء رضيعها وتتخذ الطريق الشاقة من بيت لحم مرورا بغزة ثم صحراء شمالى سيناء القاسية إلى مصر لتظل فى ارتحال وتنقل بين مدنها شمالا وجنوبا لمدة ثلاث سنوات حتى يأتيها نبأ هلاك الطاغية هيرودوس ورفع السيف عن الأطفال.

وأما السيدة زينب، بنت على بن أبى طالب، وأخت الإمام الحسين، فهى أم العواجز والمساكين لاشتهارها بأعمال البر والإحسان للفقراء، وهى أم هاشم، أى أم بنى هاشم، وهو تكريم لها بأنها بمثابة الأم لقومها بنى هاشم لاشتهارها بالحكمة ولجوئهم لها لطلب النصيحة، وهى ذات الشجاعة العالية حين نظرت فى عينى الطاغية يزيد بن معاوية بن أبى سفيان، وردت على سخريته من أخيها الحسين وأبيها الإمام على بقولها: «بدين الله ودين جدى، ودين أبى ودين أخى، هديت أنت وأبيك وجدك »، فلما قال مرتبكا: «كذبت يا عدوة الله»، رمته بنظرة ازدراء وأجابته: «أنت تشتم بقوة سلطانك!».

فكأنما انتقى المصريون النماذج الثلاثة من عصورهم الحضارية الفرعونية والقبطية والإسلامية، ليترجموا فى حبهم رؤية المصرى لما يجب أن تكون عليه الأم.. وللحديث بقية فى المقال المقبل إن شاء الله.







مشاركة



الموضوعات المتعلقة




الرجوع الى أعلى الصفحة