"الشوارع حواديت/ حوادية الحب فيها/ وحوداية عفاريت/ إسمعي يا حلوة لما اضحكك" ...، إنني في طرقات المدينة، أمشي كما أمشي كل يوم، لا أكاد ألحظ أي فرق في الشارع المكتظ بالناس وهم يتدافعون في دوائر، أفلست حواسي في تتبع تدحرجهم نحو المفترقات، بينما أنا أواصل المشي كأن المشي هدفاً في حد ذاته، ينبغي ألا أفكر في تفسيره؛ خطوات منقطعة النظير، موصولة بالأفق والسماء، لا تصل إلى موضع أو حد، لكني هذه المرة مشدودة إلى الأغنية التي كتبها صلاح جاهين لفرقة المصريين وأهداها هاني شنودة لفيلم "الحريف" (1984) إخراج محمد خان.
أردد الأغنية بصوت مكتوم، قبل دقائق قليلة من لقائي بصاحب اللحن ومؤسس فرقة المصريين الموسيقار هاني شنودة، لا أعرف بدقة سبب سطوة هذا اللحن في هذه اللحظة واستسلامي له، ربما كنوع من شحن الذاكرة قبل اللقاء، وربما لأن هذا شأن من شئون الموسيقى وقوتها، تصنع إيقاعاً داخلياً، الإيقاع الذي يبعث رجفة في الجسد والروح هو رادع لوحشة الخارج، أو ربما كانت هذه حيلة من حيلي لالتماس بعضاً من الارتياح والطمأنينة، بلحن له شخصية واضحة؛ كلماته حارة وطيبة تدعم مشواري المستّحَب بالجمال.
تجاوبي مع اللحن وصوت "المصريين" في رأسي، ينبع من تلهفي صوب الجمال في كافة تجليّاته، لا أتكلم هنا عن كمال الأصوات والتقنيات الموسيقية العالية، إنما عن الدفء والشاعرية والوفرة العاطفية، فالمقاطع صافية، شاهقة، رقيقة، منحنية ومائلة.
أعبر الطريق إلى الاتجاه المقابل بحذر مكترث بما حولي، متجنبة أي هفوة قد تجعلني أنزلق أو تُظهر إرهاقي الشديد، يسبقني فارس (عادل إمام) في مفتتح فيلم "الحريف"، يجري لاهثاَ بأنفاس متقطعة على القضبان كأنه درب طويل بلا رحمة، قبل أن تنساب أنغام هاني شنودة ونندس معها في مشاهد تغلغلت فيها الموسيقى لتسجل حالة فنية توثق صراع البطل مع زمنه، كما أنها تمنحنا إحساساً قوياً بالمكان، فندخل إلى المشاهد بسهولة ونعرف كل ما يريده لنا الفيلم أن نعرفه، إنه ما لخصه مثلاً الناقد والباحث السينمائي المجري "بيلا بالاش" عن موسيقى الأفلام عموماً، حين قال: "في الفيلم توجد آلاف النغمات غير أنه لا توجد فترة صمت واحدة، هي الظاهرة السمعية ذات الأهمية القصوى".
يتدفق لحن الشوارع حواديت في رأسي مرة أخرى، فأردد معه: "الشارع دا كنا ساكنين فيه زمان/ كل يوم يضيق زيادة عن ما كان/ أصبح الآن بعد ما كبرنا عليه/ زي بطن الأم ما لناش فيه مكان".. سكنني اللحن تماماً حتى وصلت إلى العمارة التي يسكن فيها هاني شنودة، وجدته ينتظرني أمام الباب؛ فتلعثمت في إلقاء التحية عليه، كل شيء عنده يفيض بالموسيقى: البيانو، نوتات الموسيقى المبعثرة في المكان، الجوائز، الدروع الكثيرة المكدسة في الأرجاء، شهادات التقدير المعلقة على الجدران، حتى أنني على كثرتها ووفرتها، كدت ألا أسأله عنها، قد يكون الكلام إحتبس عني وأنا في مواجهة فنان يحكي عن تجربته ببساطة كأنها سيرة عادية، وجهه إكتسب هذه الوداعة البريئة من التباهي والزهو، لا يبالغ في أناقة التعبير، يؤمن بأن الصدفة صنعته، فهو صدفة ابن طنطا، المدينة المترعة بألوان مختلفة من الموسيقى والغناء، وصدفة أخرى اجتذبته إلى غرفة بيانو والدته ليكتشف نزوعه وشغفه الموسيقي، والصدفة كذلك هي التي زرعته في أوساط الفرق الغنائية مع شباب طموح، حققوا أحلامهم الجامحة في الغناء والموسيقى، حلقة تسلم حلقة في سلسلة طويلة من المصادفات، حسب تعبيره، رسمت مشواره التصاعدي في عالم الموسيقى والفن .
شيء بداخلي يخبرني أن هذه البساطة وهذا الزهد لا يعني أنه لا يدري قيمته كفنان عنيد، مغامر، صانع روائع، لديه مخيّلة ثورية لحنية طبعت أعماله الكثيرة والمُتنوّعة حتى إستحق لقب "موسيقار المصريين"، نسبة إلى فرقته الشهيرة التي كوّنها في العام 1977، تجربته الفنية الزاهرة التي رسمت مساحة في عالمنا من الفرح والبهجة، كان يعزف ورفاقه من "المصريين/ الفرقة" يعزفون ويغنون، كأنهم ينفضون عن "المصريين / الجمهور" الهم في حياتهم الصعبة.
إنه ليس من الـ "هيبيز" الذين ظهروا في أمريكا خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ثم ما لبثوا أن انتشروا عالمياً كحركة شبابية إحتجاجية، مناهضة للقيم الرأسمالية وثقافة الاستهلاك، داعية للحرية والمساواة والحب والسلام، شباب يطيلون شعورهم ويرتدون ملابس غريبة، يتخذون موسيقى الروك متنفساً لهم، وهو ليس أيضاً واحداً من فرقة الخنافس الهيبية "بيتلز" البريطانية، التي تشكلت في ليفربول في عام 1960، وأصبحت أكبر الفرق الموسيقية نجاحاً وأشهرها في تاريخ الموسيقى الشعبية، ولا كان واحداً من "إيجلز/ صقور"، فرقة الروك الأمريكية التي تشكلت في العام1971، كما أنه ليس سيد درويش الذي حرر الموسيقى من منمنمات وزخرفات القصور إلى حيوية الحياة الحقيقية في الشارع، لكن شنودة كانت لديه هذه السمة التي تجنح نحو عدم التعلق بالمظاهر المادية، كان يطمح في هذا التغيير الذي يحقق دوياً في الموسيقى المصرية، وهو ما حاولت أن أتلمسه وأسعى إلى معرفة تأثير طموحه في التجديد والتغيير على الموسيقى التي وضعها للأفلام والأعمال الدرامية عموماً، خلال كتابي الذي صدر في إطار تكريم المهرجان القومي للسينما المصرية للموسيقار الكبير.
إذن. فإن هاني شنودة مغامر بالمعنى الحرفي للكلمة، وفي نفس الوقت زاهد، متعفف، مستكف.. ليس من منطلق نكران الذات أو الانقطاع عن الدنيا، إنما كفنان حقيقي، يستمتع بقلب التوقعات التقليدية والخروج عن المألوف، يعيش في عالم نابض بالحياة، جزء من إلهامه يستمده بتواصله مع الناس والأفكار، وتفسير هذا التواصل بالتجريب والشروع في فتح آفاق جديدة، لعل هذا كان من أهم أسس مساهماته في إبراز الهوية المصرية من خلال ألحانه، أفترض أن هذا النمط يزاوله "شنودة" بطريقة مذهلة، يصوغه نصياً بشكل كبير من عفويته الظاهرة وغير المتوقعة، ما يجعله يعزز عواطفه ويعيد شحن قدراته حين يختلي بنفسه ليؤلف مقطوعته الجديدة.
إرتبط الذوق الموسيقي عند هاني شنودة، بأسلوب عصرٍ عاشته مصر حينذاك، حيث اشتهرت فترة الستينيات والسبعينيات بظهور العديد من الفرق الغنائية التي غيرت من أسلوب الطرب، كان هو واحد من مؤسسي فرق الجاز المصرية بعد رحيل الأجانب، نقلة عصرية كانت مهمة وضرورية في تاريخ الموسيقى في مصر، لكنها كانت أيضاً مسئولية؛ أول من تصدى لها هاني شنودة حين أسس فرقته "المصريين"، فراح يؤلف ويعزف ويجدد ويعصرن، كأنه يثبت لنفسه أولاً قبل التاريخ أنه ابن التراث الإنساني الأشمل، بما لديه من جاذبية التطور والانفتاح على الموسيقى العالمية، هنا صنع بموسيقاه حالة مصرية مبتكرة ومعاصرة، بتأليف ما تعداده الألف لحن أظهرت أبعاداً في شخصيته، رومانسية، حيوية وخفيفة الظل، مشروع هو سنده كموسيقار يسعى إلى ارتقاء الكيمياء اللطيفة التي تجمعه بجمهوره، بمعان وأشكال موسيقية مختلفة: اجتماعية، شعبية وصلت إلى أوجها مع "زحمة يا دنيا زحمة" التي غناها أحمد عدوية، في رأيي أن هذا التواصل الكيميائي، العاطفي، هو ما حدث بقوة عندما صعد الممثل المصري الأصل رامي يوسف يتسلم جائزته في حفل "جولدن جلوب" الأخير، إذ استعاد الجميع وميضاً من الاشتياق إلى موسيقى سكنت وجدانهم، يعزز ذلك ما قالته له المطربة الكبيرة نجاة ذات يوم:" يا هاني، كل الناس بتلحن على الأرض وأنت بتلحن على السحاب"، وما قالته أيضاً النجمة الكبيرة فاتن حمامة حين إختارته ليضع موسيقى فيلمها "ولا عزاء للسيدات" (1979) إخراج هنري بركات: "الحياة تقفز في موسيقى هاني شنودة".
البحث عن الجديد كان مدخل هاني شنودة للعمل في مجال الموسيقى التصويرية، خطوة بدأها في العام 1979، تبعتها خطوات أخرى وأعمال كثيرة رسخت اسمه كموسيقي ذائِع الصّيت، جاء إلى السينما من عالم الألحان كما فعلها من قبله موسيقيين كبار استمدوا شهرتهم من عالم الأغاني، قاموا بوضع الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام، مثل محمد القصبجي، زكريا أحمد، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، محمد فوزي، محمد الموجي، كمال الطويل، منير مراد، بليغ حمدي، ومن جيله: عمر خورشيد، عمر خيرت، عزت أبو عوف، حسن أبو السعود وغيرهم.. قامات كبيرة في عالم التلحين جاءت من عباءة الأغنية وأسهمت في ميلاد وازدهار الموسيقى السينمائية.
المهم أن اسم هاني شنودة صار على مدار رحلة حافلة واحداً من الكبار الذين أثروا السينما بموسيقاهم، في قائمة طويلة ضمت الرواد السابقين مثل أندريا رايدر، فؤاد الظاهري، علي اسماعيل، وقبلهم جميعاً كانت بهيجة حافظ، أول امرأة تعمل بالتأليف الموسيقي، كما ضمت القائمة من اللاحقين أسماء لها وجاهتها وإسهاماتها المهمة في الموسيقى التصويرية مثل: كمال بكير، راجح داود، ياسر عبد الرحمن، تامر كروان، هشام نزيه، خالد حماد، خالد داغر و.. غيرهم.
نحو 143 عملاً ما بين مسلسلات إذاعية وتليفزيونية، وأعمال مسرحية إلى جوار الأفلام السينمائية، وضع هاني شنودة موسيقاها التصويرية ليكتمل مشروعه في إتجاه موازِ لعالم الأغنية، حضور متنوع، ذو سطوة بأفلام قوية وكبيرة كما في: المشبوه، غريب في بيتي، عصابة حمادة وتوتو، الغول، الحريف، شمس الزناتي و.. غيرها، وحضور مغاير في أفلام أخرى صغيرة، متفاوتة المستوى، وهو أمر يلخص أننا أمام نموذج للفنان "الحريف"، كما عنوان الفيلم، ذلك المهني، الماهر، القادر على الابتكار، الخبير الذي يطرق جميع الألوان بمنطق العمل المُشْرَع على كل الأبواب، معتمداً في مشروعه على محورين: الموسيقى المتأتية من الفكر والتأمل، والموسيقى النابعة رأساً من الغريزة الفنية والعاطفية.
أخبره برأيي هذا قبل أن أنهي لقائي معه وأنصرف، فيرد مبتسماً: يمكن!، يعاودني لحن "الشوارع حواديت" من جديد، حين هممت بالخروج، فأمتثل للكلمات: إتجاهك إتجاهي مشينا ليه/ والشارع دا زحام وتيه/ بس لازم نستميت/ واضحكي يا حلوة لما أسمّعك...
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة