لن تضع يدَك على تعريفٍ دقيق. بعد عقودٍ من التأسيس والتداول ما يزالُ الأمر سائلاً، بالضبط كما تسيلُ بين أيدينا مئاتُ المفاهيم والاصطلاحات. يطيبُ للبعض النظرُ إلى "المجتمع المدنى" باعتباره شارعًا مُباحًا بلا مُفتتَحٍ ولا ختام، ويراه آخرون زُقاقًا تحدُّه العينُ بنظرةٍ واحدة. المُؤكَّد أنه لا هذا ولا ذاك. لدى اليسار نظرةٌ مفتوحةٌ تضعه فوق بقيَّة الأضلاع داخل بنيان الدولة، أمَّا الليبراليِّون فرُبَّما يحبسونه فى حيِّز الظهير الذى يُلملمُ سَقْطَهم ويُضمِّد جرحاهم. العالمُ الآن بات أكثر احتياجًا للمجتمع المدنى، لكن المهم أن تكون الحاجة على بصيرةٍ من الفهم الواعى، والتأصيل الدقيق، والحركةِ قدرَ ما يسعُ القدم ويتيَّسر لها!
الفصل فى التصنيف - بحسب المُنظِّر الماركسىّ أنطونيو جرامشى - مدى الاتِّصال بالدولة. لكنَّه يُدرجُ داخله "أجهزةَ الهيمنة" ذات الصِّبغة المُستقلَّة، من أحزابٍ ونقابات وإعلام وتعليم ومُؤسَّسات دينية. هكذا يحضر هذا الجسد الضخم بين الفرد والسلطة، أو بين البِنية الاقتصادية والدولة. وبمعنى آخر فهو منظومة الأبنية والعلاقات الاجتماعية غير المُشاركة فى الإنتاج أو الحُكم. أمَّا ضابطُه الليبرالىّ فيدورُ على مُرتكَز الفرديَّة، بدءًا من تواضعِ الأفراد على صِيَغٍ وعلاقات ومداخل تنظيمية جماعية، بوعىٍ واتِّفاقٍ بلا إجبار، والتمكين من المنافع دون تدخُّلِ الدولة، شاملاً كلَّ العلاقات غير البدائيَّة، والأبنية الاجتماعية، الطَّوعيَّة والمُستقلَّة عن السُّلطة. الأُمم المُتَّحدة والبنك الدولىُّ اعتبراه فى بعض التقارير "حلاًّ سحريًّا للقضاء على الفقر والتخلُّف". بعيدًا من غابة التعريفات وتشابُك المفاهيم وتداخُلها، يظلُّ الجميع مُتَّفقين على أهميَّة المُجتمع المدنى، لكنَّهم يختلفون وقتما يقفون أمام مسؤولية التفعيل، أو حدود المنفعة والعوائد.
فى كلمته الختامية بمنتدى شباب العالم، مساء الخميس، جدَّد الرئيس عبد الفتاح السيسى إعلانه 2022 عامًا للمجتمع المدنى. قبل اليوم بعدَّة شهور أطلق الاستراتيجيَّة الوطنية لحقوق الإنسان. كانت الاستراتيجية حصيلةَ حوارٍ طويلٍ مع طيفٍ واسعٍ من المجتمع المدنى، وظلَّت مسار نقاش مُحتدمٍ بينهم حتى بعد إعلانها. تظهر السخونةُ دائمًا فى ملف الحقوق السياسية؛ لكن الأصوات تخفُت عندما نفتح الأقواس لكتابةِ حقوقٍ أخرى. درجةُ الاشتباك فى السياسة لا نجدها فى أمور التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والتمكين الاقتصادى، رغم أنها جميعًا حقوق، وجميعها تقعُ فى مجال اهتمام المجتمع المدنى ونشاطه. ربَّما يقول فريقٌ إنها أولويَّات ينبنى بعضُها على بعض، لكن هذا القولَ يُخضِع الأمرَ لنسبيَّة الرؤى وتفاوتها، أو يُغفِل مُتطلَّباتٍ أكثر إلحاحًا تتَّصل بالحقِّ فى الحياة نفسها. وقد يتعلَّلُ البعضُ بالتخصُّص، لكنَّ كثيرًا من التنظيمات تحمل الحقوقَ الاجتماعية فى أسمائها إلى جانب الحقوق السياسية، وتمتلئ برامجُها بعناوين التنمية والتوعية والتدريب والتأهيل والتمكين، وتستجلبُ حصَّةً من تمويلاتها تحت لافتة الاشتغال الاجتماعى والحوائج الإنسانية.
بات شائعًا أن يُفسِّر البعضُ مفهومَ حقوق الإنسان فى حيِّز السياسة والرأى فقط. هما جزءٌ من الصورة لا مجموعها. هذا التصوُّر ينطوى للأسفِ على اختزالٍ مُخلٍّ، ولعلَّ تلك النظرة المُبتسَرة تتأسَّسُ على خُصومةٍ افتراضيَّةٍ تنطلقُ من وضع الدولة موضعَ عداء. الدولةُ - فى جوهرِ الأمر ومُقاربته فلسفيًّا - جزءٌ أصيل من المجتمع المدنى، مُؤسَّساتُها كيانات اعتباريَّة يشغلها مواطنون، هم أنفسهم أفرادٌ فى أحوازٍ اجتماعيَّة أخرى، كما أنها - من حيث كونها نظامًا ضابطًا وسُلطةَ إدارةٍ وتشريع - تتَّصلُ اتِّصالاً عضويًّا مُباشرًا بعموم الأفراد فى المجال العام، فضلاً عن ذلك هى الحامل للتنظيمات المدنية، وقادرةٌ على تقويضها أو إفساح الطريق لها. وفق هذا الفهم ربما نحتاجُ مفهومًا جديدًا، أو تصوُّرًا أكثر نضجًا والتصاقًا بالراهن عن الأبنية المدنيَّة وأدوارها ومناطِ عملها، بما لا يُخلُّ باستقلالها، ولا يعزلُها عن التأثير، ولا يضعُها حكمًا ورقيبًا "مغسولَ اليدين من المسؤوليَّة والالتزام" فوق قاعدتِها وظهيرِها ومجالها الحيوىّ.
لا يُمكن أن تخلو علاقةُ المجتمع المدنىّ بالإدارة فى أىّ بلدٍ من تجاذبات. المطلوب أن تكون هناك مُرونةٌ فى إدارة التناقضات وتلافى المواجهة. بدأت الدولة مسارًا رشيدًا بالقانون 149 لسنة 2019 الذى عالج الملاحظات السابقة على القانون 70 لسنة 2017، ومنح إعفاءاتٍ ضريبيَّةً وجمركيَّةً، ومزايا فى أسعار الخدمات، وتسهيلات فى التعاملات المالية والشراكة مع الجهات الرسمية والمنظمَّات الدولية غير الحكومية، فضلاً عن التأسيس بالإخطار، وإلغاء العقوبات السالبة للحُرّية، وتحصين الجمعيات؛ ليكون الحلُّ ذاتيًّا بقرار جمعيَّاتها العمومية أو أحكامٍ قضائية. الدور الآن على نحو 57 ألف منظَّمة محليَّة، وعشرات الفروع الدولية، وآلاف النوافذ الأخرى إذا أضفنا المنصَّات الدينية والتربوية والحزبية والإعلامية المُستقلَّة. تحتاج الدولة ظهيرًا قويًّا من المجتمع المدنى، وتدركُ هذا الاحتياج تمامًا - حسبما يبدو من الإجراءات وآليَّات العمل المُغايرة - ويتعيَّن أن يلتقط المجتمع المدنىُّ الإشارةَ بجهاز استقبالٍ سليم، وأن يُدركَ حاجته أيضًا للوفاق مع الدولة، والتكامل مع مُؤسَّساتها.
كان مُنتدى شباب العالم لامعًا على مدى أيامه الأربعة. فى محاوره وجلساته وحجم النقاشات ونوعيَّتها، وفى رسائل الرئيس وحزمة القرارات والتوصيات. أمورٌ تخصُّ الداخلَ والإدارة وتمكينَ الشباب وتعميم المُبادرات الوطنية إقليميًّا، وملفَّات تتَّصلُ بالعالم فى المناخ والسَّلم والفقر والمياه والأوبئة والتنمية وريادةِ الأعمال وإعمار مناطق النزاع، حوارٌ بلا سقف وردودٌ على كل شىءٍ حتى مزاعم الاختفاء القسرى. الحدثُ أكبر من نشاطٍ دورىٍّ وأبعدُ من مُلتقى شبابىٍّ للكلام وتفريغ الطاقات. هناك إشارةٌ عميقةٌ إلى فلسفةٍ جديدة، وآليَّةِ عملٍ مُغايرة، لا ترى فيها الدولةُ نفسَها قابعةً فى موقع ردِّ الفِعْل، ولا مَصبًّا تنتهى إليه الإملاءاتُ الخارجية ويُسقط عليه الآخرون تصوُّراتهم الانحيازيَّة عن أنفسهم والعالم. هنا مُحاولةٌ لامتلاك زمامِ المُبادرة وخلقِ اتِّصالٍ ثُنائىِّ الاتجاه مع الخارج بنِدّيَّةٍ وتكافؤ. فى الافتتاح صرخ المشاركون بكل اللغات فى وجه العالم المُتقاعس أمام الوباء. كانت الرسالة مصريَّةً فى رؤيتها وصيغتها وزمنها وموقعها. فى الختام تجاور "خيال الظل" العابر للثقافات، مع عرضٍ ضوئىٍّ بالطائرات المُسيَّرة. مُزاوجةٌ بين أصالة التراث المصرى ومُعاصرةِ التقنية والإبداعات العالمية. ربما يبدو الاستشهادُ بعيدًا فى نظر البعض، لكنَّه خُلاصة الرؤية المصرية الراهنة: نتحرَّك إلى الأمام مُستعينين بكل الأدوات. لدينا ثقافتنا لكنَّنا مُنفتحون على الجميع. نتحاور ولا نقبل الإملاء. نستقبل الرسائل جميعًا ولدينا رسائلُنا القادرةُ على الوصول ببلاغةٍ وتكثيف. المجتمع المدنى يحتاج إلى النظر ثانيةً فى المشهد من هذه الزاوية. لسنا مُطالَبين باعتماد رؤى الآخرين عن المجال الاجتماعى والحقوق والتنمية، إذ نملك وصفتَنا ولدينا أدواتُ تفعيلِها. حتى لو اختلف المُنتمون إلى وصفاتٍ أخرى مع هذا التصوُّر، فلن يكون بمقدورهم التعاطى مع الواقع إلا بقدرِ الانسجام مع عقل الدولة الجديد، والانخراط فى المُعادلة من داخلها، دون تنظيراتٍ مُستجلَبةٍ من خارجها، أو تنازُعٍ مجانىٍّ ومُبدِّدٍ للطاقة معها.
نحو 500 "دُرون" شكَّلت عرض ختام المُنتدى. الرقم القياسى مُسجَّلٌ للصين بـ1374 طائرة، والأكبرُ إقليميًّا فى دبىّ بـ300 فقط. حدثٌ مثل هذا قبل سنوات كان المجتمعُ المدنى سيعتبره إهدارًا للموارد، وربما لم تختلف نظرةُ بعضهم حتى الآن، حاملين الأمر على رؤية خاصَّة ضيَّقةٍ لفقهِ الأولويات. الدولة الآن تسير وفق فلسفة فسيحةٍ تضعُ الواقع على قدم المساواة مع المُستقبل. الاشتغال الاجتماعى ليس مُبرِّرًا لتعطيلِ القطار عن طريقه أو تأخيرِ وُصوله. يُمكن أن تتجاور "حياة كريمة" و"تكافل وكرامة" و"التأمين الصحى الشامل" و"100 مليون صحة" وغيرها، مع العاصمة الإدارية والطرق وشبكات النقل ومحطَّات الطاقة والمياه ومُدنِ الجيل الرابع. المجتمع المدنىُّ عليه أن يُشمِّرَ ساعديه ويشتبكَ مع الحالة الراهنة اشتباكَ عملٍ لا تنظير. عليه أن يكون صرَّافًا لا مُكتنزَ أموال، عاملاً لا مُلاحِظَ عُمَّال، شريكًا حقيقيًّا جديرًا بالثقة وليس فيلسوفًا وقاضيًا. أن يتخلَّى فى بعضِ أطيافِه عن المُكايدة السياسيَّة أو التحالفات المُلطَّخة بالشُّبهات. عليه أن يمتلكَ الخيالَ ويقبضَ على الواقع، أن يكون الأصالةَ فى عرض "طيف الخيال" والمُعاصرةَ فى "استعراضات الدُّرون". لن يكونَ قادرًا على الحياة إذا ظلَّ خارجها. لن يقبلَه الناسُ إذا اكتفى ببيع الشعارات، ولن تقبلَه الدولة إذا كانت شعاراتُه تخصُّ الآخرين!
سؤالُ الحقوقِ مُهمٌّ، لكنَّ سؤالَ الوجود أهمّ. ماذا عن جدارة التنظيمات المدنية؟ كفاءة الأحزاب؟ توعية الناشطين وتثقيفهم؟ امتلاك حاضنةٍ شعبيَّةٍ حقيقيَّة؟.. تلك الأسئلةُ وغيرُها كثيرٌ ربما تغيبُ عن أذهان الفاعلين فى الحيِّز الأهلىِّ. المُعضلةُ أن فريقًا منهم يُوظِّفون أوراق الاجتماع فى اختصام الإدارة، وآخرين وكلاءٌ وستائرُ تخبِّئ جماعاتٍ عجزت عن اختراق المشهد بأدوات السياسة فحاولت النفاذ إليه من بوَّابةِ المدنيَّة، وبعضُهم يحبسونَ أنفسَهم فى الأيديولوجيا أو قيودِ التمويل، بينما تروحُ الحوادث من حولهم وتجىء، وتتبدَّلُ الأحوالُ والدنيا وما يزالون على حالِهم. الآن، انقضت أيامُ المُنتدى. تركت وراءها أثرًا لا يُمكن إنكاره أو القفز عليه، أهمّها سِتُّ توصياتٍ وثمانيةُ قراراتٍ رئاسيَّةٍ منها إطلاق عام المجتمع المدنى رسميًّا. تملك الدولةُ رؤيةً وخارطةً ومسارًا ستواصلُه، والكرةُ فى ملعب من يُحبُّ أن يكون جزءًا فاعلاً فى المشهد. نحتاج المجتمع المدنى احتياجًا حقيقيًّا، لكن الأهم أن يحتاجَ نفسَه، وأن يخلصَ لها أكثرَ من إخلاصه لأفراده والمُتربِّحين منه، وأكثرَ من صمته على اختطاف بعض أجنحتِه لخدمةِ أفكارٍ مُتطرِّفةٍ وتيَّاراتٍ تُعادى المدنيَّة والمُجتمع. أن يرى الفرصة، وأن يُحسِن استغلالها. وأن يخلع عباءة الأيديولوجيا؛ لأنها لم تعُد كافيةً لسَتْرِ العوار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة