عاد مجلس النواب من إجازته السنوية، مُفتتحًا دور الانعقاد الرابع بالإجراءات المُعتادة لتشكيل اللجان النوعية وانتخاب مكاتبها، فضلاً على إحالة عدد من الاتفاقيات ومشروعات القوانين الواردة من الحكومة للجان المُختصّة، وأبرزها ما يخصّ الحزمة الاجتماعية التى أعلنها الرئيس السيسى على هامش زيارة بنى سويف قبل أسابيع. تأتى العودة على أبواب استحقاق رئاسى بالغ الأهمية، وبعدما أنجز «الحوار الوطنى» كثيرًا من الملفّات، وتوصَّل إلى مُخرجات تنتظر التحقيق. وبينما يزدحم جدوله بمهام اعتيادية عديدة، عليه أن يستعدَّ لمسارات عمل كثيفة ومُتداخلة بعد الانتخابات، وفى الفُسحة الباقية من عُمر الفصل التشريعى، قبل الاستعداد للمحطَّة البرلمانية الجديدة أواخر العام بعد المُقبل، والمُؤكّد أن النوّاب وأحزابهم يستشعرون الطبيعة الاستثنائية للمرحلة، ويُراقبون المجال السياسى العام، ويستعدّون لبدء جولة طويلة مع الشارع، وكل ذلك يفرض اشتغالاً جادًّا على أمور التشريع، وتحضُّرًا ناضجًا لمُخاطبة الشارع، ستكون الأفكار والبرامج أهم ما فيه، لا سيّما مع مناخ الانفتاح الذى أحدثه الحوار، وتبعته صحوةٌ ملموسة فى الحياة الحزبية.
فى جلسته الأولى، وجَّه المجلس برقية تأييد للقيادة السياسية، وأحال المشروعات الواردة إليه للوِرَش التخصُّصية، وخاطب الأعضاء بإبداء رغباتهم فى عضويّة اللجان بحدٍّ أقصى عدّة ساعات بعد رفع الانعقاد، تمهيدًا لانتخاب هيئات المكاتب، اليوم الثلاثاء. لم يكن النوّاب غائبين عن مشهد الحوار الوطنى طوال الشهور الماضية، لكن بصفاتهم الشخصية والحزبية، وفى الفترة المقبلة من المُنتظر أن يشتبك مع الاقتراحات من زاويةٍ مُؤسَّسية، إذ تتنوّع بين أمورٍ ستأخذ مسارها التنفيذى بموجب صلاحيات الرئيس والحكومة، وموضوعات تتطلَّب تدخُّلاً تشريعيًّا. ويعلم المجلس أن منصَّة الحوار تشكَّلت بمُبادرة رئاسية، أى أنها تُمثّل توجُّهًا جديدًا من الدولة نحو استيعاب التنوُّع، وإرساء قاعدة وطيدة للنقاش والتفاهم وبناء التوافق، انطلاقًا من الأرضية الجامعة لتحالف 30 يونيو، وثوابت الدولة الوطنية فيما يخص صبغتها المدنية، وقطع الطريق على الرجعيَّة وجماعات العنف. صحيحٌ أن «الحوار» ليس بديلاً عن مُؤسَّسات الدولة، ولا يخصم من سُلطة التشريع وولاية البرلمان على ماكينة إنتاج القوانين، إلا أنه يُوجب على نوّابه العمل الجاد لتعزيز المُشتركات، وترقية البيئة الانفتاحية بين القوى المدنية، وهو أمرٌ يدعم الأحزاب ويصبُّ فى صالح الحياة السياسية، وينعكس بالضرورة على الانتخابات التشريعية المُقبلة.
البرلمان ثانى الأضلاع فى مُثلّث السلطات، وهو حصَّة الشارع الخالصة من دولاب الحُكم بموجب أعراف الديمقراطية التمثيلية. وعليه طوال الوقت مهمَّة أن يتوازن بين إرضاء الناس، ومُراعاة الدستور والمصالح العُليا وأولويَّات التنمية، وقد يحدث أحيانًا أن تختلف تفضيلات الجمهور عن اعتبارات الإدارة الرشيدة للموارد والالتزامات. التنازع الطبيعى يدفع البعض لانتهاج مساراتٍ شعبويَّة، تضع مُغازلة الناخبين قبل المنطق والأرقام وحقائق الواقع، وتُنتج رسائل عاطفية وتعبويّة، تنطلق من نقد السياسات القائمة دون اقتراح حلولٍ وبدائل عملية مُتماسكة، ويكون عماد ذلك حديث العموميَّات والعناوين العريضة الجاذبة، دون إيغالٍ تخصُّصى ومُتعمِّق فى التفاصيل. والحقيقة أنه لو جاز للأحزاب أن تنهج هذا السلوك ضمن رؤيتها للحشد والتسويق؛ فإن على النوّاب أن يتحصَّنوا برصانة الخطاب والمُمارسة، لا سيَّما أنهم ينكشفون على واقع الحال وبياناته المُدقَّقة، ويتقاسمون المسؤولية المُباشرة مع السلطة التنفيذية، من زاوية أنهم يحتكرون ورقة التشريع والرقابة وإقرار المُوازنات وحساباتها الختامية. وحتى إن حمل بعض النواب آراء وتوجهات مُخالفة للأغلبية، فإنهم يلتزمون فى النهاية باحترام رؤية المجلس، مُمثّلة فى القرارات واتجاهات التصويت. يتطلَّب ذلك أن يتحلَّى النوّاب بقدرٍ من الحياد فى الصراع السياسى بين السلطة والمعارضة، وقدرٍ من التوازن بين التزاماتهم البرلمانية وأجندات أحزابهم، حتى لا ينزلق المجلس إلى ساحة الشجار السياسى، ولا تتحوَّل المراكز النيابية إلى أوراقٍ حزبية يجرى تسييلها وصرفها فى بنك التشاحن والمُزايدات.
ليس المقصود أنَّ على النواب خلعَ عباءاتهم الأيديولوجية والتنظيمية، وقد دخلوا إلى المجلس مُمثّلين عنها؛ إنما المعنى أن يقع الفصل الواجب بين الصفة الحزبية والتزامات الموقع النيابى. لكلِّ حزبٍ أن يرفض قرارًا أو تشريعًا يُصدره البرلمان فى ضوء أيديولوجيته وانحيازاته العامة، ثمّ عليه أن يخضع له ويلتزم به بمُجرّد أن يصير قانونًا ساريًا، ويعمل على ضبطه أو تعديله بالأدوات الشرعية؛ لكن عضو المجلس شريك فى القرار والتشريع بمجرد أن تُقرّه الأغلبية، وحقّه فى إبداء رُؤاه بالجلسات وإثباتها بالمضابط، لا ينسحب إلى اتخاذ مواقف مُضادّة لسُّلطة التشريع فى المجال العام. قد لا يبدو الفارق واضحًا للبعض؛ إنما فى جوهر المُمارسة الديمقراطية يعلم كل عضو أنه مسؤول أمام البرلمان، بقدر مسؤوليته تجاه الحزب، وكما يتمتَّع بحقوقٍ تحت القبَّة فإن عليه واجبات، وهناك أمورٌ تجوز لأى زميل عادى له فى حزبه قد لا تجوز له، لأنه شريك مُتضامنٌ فى أعمال البرلمان/ الدولة، وليس خصيمًا مُطلق الحقّ فى أدوات النقد والاستهداف السياسى.
قبل يومين، أصدر عدد من النواب المحسوبين على المُعارضة بيانًا عن موضوع جمع التوكيلات لمُرشَّحى الرئاسة، وطعنوا فى الجهة الإدارية المسؤولة عن المُحرَّرات، مع دعمٍ واضح لأحد راغبى الترشُّح بالاسم.. الثغرات فى الموقف عديدة: أوَّلها أنه يختصم السلطة التنفيذية بغير الأدوات المُقرَّرة لعضو البرلمان بموجب الدستور والقانون، وثانيها أنه يُعلن انحيازًا سياسيًّا فى المجال العام تحت لافتة الصفة النيابية، وثالثها أنه طالب بإجراءاتٍ لا تقع فى نطاق مهام وصلاحيات عضو البرلمان بصفته الفردية. إنّ اتخاذ مثل هذا الموقف ينقل العمل البرلمانى من بيئته الطبيعية إلى الشارع، ويتحلَّل من رصانة الرقابة والمُساءلة إلى شعبوية التهجُّم والاستهداف، ويستغل المنصب التشريعى فى إسناد أحد المُتقدّمين للسباق خارج الوسائل المُتاحة للنائب وفق المسارات الإجرائيّة المُنضبطة.
كان بالإمكان أن يُفعِّل النواب سُلطتهم القانونية بتوجيه سؤال أو طلب إحاطة أو استجواب للحكومة، وأن يدعموا المُرشَّح الذى اختاروه بتحرير نماذج تزكية برلمانية، أو يتركوا مهمَّة البيان السياسى لأحزابهم، ولا يتورَّطوا فى القفز على أسوار المجلس رافعين بطاقات العضوية فى عرض الطريق. تلك الحالة تُلخِّص الخلط المُشار إليه بين الأيديولوجيا فى ثوبها الرسمى وفى صورتها الشعبويَّة، وتداخل المهام والالتزامات إلى حدِّ أن تصير الأحزاب سُلطةً فوق الدستور والقانون، ويتحوَّل النوّاب إلى «هتّيفة» فى المحافل والمُنتديات الدعائيّة.
منذ صاغ مونتسكيو مصطلح «فصل السلطات»، وأصبح أحد مبادئ ومُرتكزات الحُكم الديمقراطى، بُنِيت جُدران صُلبة بين البيئات الحزبية الصافية، وتقاطعاتها مع السلطة. المُعارضة حقّ، بل واجبٌ مطلوب؛ لكنها تنضبط بأعرافٍ تفرض تعزيز كفاءة الحُكم، لا إشاعة السيولة وتداخل المفاهيم بين أركانه. إنَّ تجريد هذا الفهم واستقامته لا ينحصران فى رسم الحدود، وإنهاء تغوُّل جناح من النظام على بقيّة الأجنحة، بل فى تحييد سُلطة الأيديولوجيا نفسها؛ حتى لا تصير قيدًا على المأسسة والحوكمة وحركة الأفراد. ما حدث خلال حُكم الإخوان فى سنتِهم السوداء، أن الحكومة بدت مُستقلَّةً ظاهريًّا؛ لكنها كانت تتلقَّى القرارات وبرامج العمل من مكتب الإرشاد، ومنه أيضًا كانت تُدفَع التوجيهات لنوّاب الجماعة فى مجلس الشورى والجمعية التأسيسية للدستور، ثم يتمازج ذلك فى المجال العام من خلال صُقور الجماعة ووجوه الحزب «الحرية والعدالة». وحده القضاء ظلَّ بعيدًا عن يد المُرشد وعصابته؛ لأن أسواره عالية على الأيديولوجيا. مهمَّة البيت الحزبى أن يكون قاعدة النقاش وورشة العمل ومنصَّة توزيع الأدوار، وأن ينتهى التنسيق داخله؛ ليخرج كل عضوٍ مُلتزمًا نطاق عمله واختصاصاته فى البيئة المُشتركة.
المطلوب من نوّاب البرلمان أن يكونوا سياسيِّين فى أحزابهم، ومُشرِّعين تحت قُبّتهم، وقُضاةً فى إدارة علاقتهم بالمجال العام؛ كى لا تسقط الحدود بين الأدوار، ويختلط الجدّ بالهزل والمنطقىّ بالشعبوى. المجلس يجتهد فى ذلك؛ وإن وقعت خروقاتٌ بين وقتٍ وآخر، وعليه أن يُشدِّد المُتابعة والضبط وتقويم انفلاتات بعض الأعضاء، لا سيَّما أن موسم الانتخابات الرئاسية تجربةٌ أُولى مُكثّفة لما ستكون عليه انتخابات النوّاب بعد نحو سنتين، وفيها يحتدم السباق على الأصوات، بالحق حينًا وبالأباطيل أحيانًا.
مُشكلة بيان النوّاب المُشار إليه، أنه يستدعى الصفة النيابية إلى خصومةٍ سياسية، أو لصدامٍ مع المُؤسَّسات. كان صدوره تاليًا لإيضاحٍ رسمى من الهيئة الوطنية للانتخابات، وهى جهةٌ مُستقلّة بهيكلٍ قضائى، قالت فيه إنها لم ترصد مخالفاتٍ أو تجاوزات فى مكاتب التوثيق، وعددها يفوق المائتين فى كل المحافظات، ودعت المعنيِّين ومن لديهم مُلاحظات إلى التقدُّم بشكاوى عن وقائع مُوثَّقة، ما يُشير إلى أنه حتى ذلك التاريخ لم تصلها أيَّة شِكايات فعليَّة يُعوَّل عليها. من جانبهم، لم يُقدِّم النوّاب أدلَّةً عمليّة أو يُشيروا إلى مواقع ومواقيت وحالات مُحدَّدة، إنّما أعادوا إنتاج سرديّات سياسيَّة ردَّدها بعضُ راغبى الترشُّح، ويُحتمَل أنها تأتى فى سياق لعبة الضغط والمُناكفات. ثم خاطبت «الهيئة» الرأى العام ببيانٍ ثانٍ، جاء فيه أنه وصلتها استفسارات وشكاوى من الزحام أو تعطُّل الأنظمة التقنيّة فى بعض المكاتب، وتابعت إصلاح الأعطال مع التوجيه بتمديد ساعات العمل، ودعم المكاتب بمزيدٍ من الموظَّفين والأجهزة. ومُجدَّدًا يبدو موقف النواب بعيدًا من واقع الحال، كما أوردته المُؤسَّسة صاحبة الولاية على العملية الانتخابية، وهى ليست فى خصومةٍ مع طرف لصالح آخر، كما أن تشكيلها تتعزَّز حصانته بإجماع القوى السياسية على طلب استمرار الإشراف القضائى على الانتخابات. دور البرلمانيِّين إزاء «فصل السلطات»، وواجبهم فى احترام هذا المبدأ وإسناده، يقتضى البُعد عن توظيف مراكزهم المعنوية فى تزكية خطاباتٍ تمسّ الصيغة المُؤسَّسية، أو تُضيِّق المساحات بين أركان النظام العام، ولم يتحقَّق ذلك عبر البيان المُسيَّس للأسف.
إن التجربة المدنية الديمقراطية فى مصر ما تزال خضراء وغضَّة العُود، ويلزمها كثيرٌ من الاجتهاد والتراكم المُتدرِّج؛ لتحصيل النضج واستدامة العافية. وليس من صالح أحدٍ، لا المعارضة ولا المُوالاة، أن تتلقَّى الأساسات التى لم تتصلَّب بعدُ أيَّة ضرباتٍ هوجاء، أو لحساباتٍ ظرفيّة ضيِّقة. لعلَّ ذلك يحدث فى تجارب عالمية راسخة، ورغم الرسوخ تنتج عنه أضرارٌ ملموسة لمنظومة الحُكم وجدارتها وفاعليَّتها الإقناعية للجمهور، وتجلَّى ذلك واضحًا فى تبعات الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2020 وما تلاها من توتُّراتٍ تتردَّد أصداؤها حتى اليوم. الحالة المصرية لا تحتمل وضع العربة أمام الحصان، أو تطوير التنازع السياسى إلى اختصام الهيئات وتعويق المسار الوليد، كما أنه ليس منطقيًّا أن يُؤسِّس الساعون إلى السُّلطة مشروعَهم على تقويض الأجهزة، ويُفترَض أن يحكموا من خلالها لو تحقَّقت غايتهم. منظومة الانتخاب جزءٌ من البناء الواجب تثبيته، والبرلمان الناضج والبعيد عن التجاذبات أيضًا، وعلى النوَّاب أن يعوا ذلك ويكونوا أوَّل المُبادرين إليه.
إنَّ عودة مجلس النواب إلى الانعقاد محطَّةٌ مُهمّة تستكمل مناخًا عامًّا يُعاد تشكيله، وبعيدًا من نتائج الانتخابات الرئاسية؛ فإن ما بعد الاستحقاق سيختلف عمّا كان قبله: إن بمُخرجات الحوار الوطنى، أو حالة الانفتاح، أو النشاط الحزبى وانعكاساته على الانتخابات التشريعية المُقبلة، وكلها تصبُّ فى حصَّة التراكم المطلوب، وترفع البناء حجرًا فوق حجرٍ بتأسيس ثابتٍ ومنطقٍ سليم. المحكُّ فى التجربة، أن ينظر الجميع إليها من زاوية أنها نتاجُ احتياجٍ وقبولٍ من كلّ الأطراف، وورشةٌ سياسية مفتوحة لهم على قدم المساواة، وليست حلبةَ صراعٍ تُحسَم مُواجهاتها بالضربة القاضية، أو يُمكن لفريقٍ فيها أن يُقصى فريقًا.. لفائدة الجميع أن تظلَّ الورشة نشطةً وقادرةً على الفرز والانتقاء وترقية الخبرات، والسبيل إلى ذلك إعمال منطق السياسة، لجهة أنها «فن المُمكن»، والتحلُّل من عقيدة «الحروب الصفريّة» لصالح بناء الاستقرار؛ وإن كان مساره طويلاً ومُرهقًا. المدخل الأول والأخير فى النضج وتطوير الأفكار والبرامج ومُلاحقة الجولات وتجميع النقاط، ولا يستقيم ذلك مع الشعبويّة أو الكيد والابتزاز والرمادية والمناورة. احترام الدستور والقانون سلَّةٌ واحدة لا فرز فيها، وإن كان يفرض إعلان القطيعة مع الرجعيّة الدينية المُسلَّحة والكيانات المُصنَّفة على لائحة الإرهاب، فإنّ القفز على ذلك من باب الخيانة، والمُطالبة بما سواه من دون التزامٍ بالواجبات بجاحة وانحراف وقلَّة عقلٍ وخُلق. ولعلَّنا فى غنى عن القول إن «نوَّاب الشعب» أولى الناس بأن يدفعوا عن ناخبيهم، ودوائرهم، ومُؤسَّستهم الرصينة، كلَّ ابتزازٍ أو مُناورة أو لعبة دنيئة وسيِّئة الرائحة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة