لم أكن بحاجة إلى الدخول للموقع الرسمي للمرحوم الدكتور طارق أسعد، أستاذ الطب النفسي بجامعة عين شمس لأتعرف على شخصية هذا العالم المرموق، وكيف كان مؤثراً في كل من حوله، بداية من زملائه وتلاميذه، حتى مرضاه أصحاب المحن النفسية الكبيرة، ورغم ذلك يخضعون أمامه ويصبحون أطفالاً صغاراً يبوحون بكل ما لديهم، بعدما يغلب مرضهم بقوة العلم والحكمة، ويسيطر عليهم بما وهبه الله من حلم وهدوء.
الدكتور طارق أسعد، أحد أهم علماء الطب النفسي خلال العقد الماضي، وله الريادة في العديد من الأبحاث المتعلقة بما يعرف بـ"أمراض النوم"، خاصة أن النوم له علاقة مباشر بالعديد من الأمراض النفسية، وغيابه بدرجات متفاوتة عادة ما يصبح أحد الدلالات القوية، التي تؤشر إلى الإصابة بالمرض النفسي، لذلك كانت أبحاثه متطورة، وكان له السبق في تأسيس معمل النوم بكلية الطب جامعة عين شمس، لإجراء التجارب وتأصيل هذا التخصص النادر.
التقيت الدكتور طارق أسعد للمرة الأولى في أواخر العام 2012، عندما ذهبت مع أحد الأقارب، ظهرت عليه علامات مفاجئة تشير لإصابته بالمرض النفسي، وقد سبق ذلك مكالمة هاتفية، حصلت خلالها على عنوان العيادة، التي تقع في مصر الجديدة، وكانت تمتلئ على آخرها، ونمكث فيها بالساعات، خاصة أن المريض النفسي غالباً ما يستغرق وقتاً خلال الكشف، لذلك كنا ننتظر طويلاً، وكنت أرى بنفسي حالات مختلفة ونماذج عديدة من المرضى، النفسيين، الذين هم بالمناسبة مثل أغلب المرضى، بشر عاديون تماماً، لا يمكنك أن تفرقهم عن غيرهم إلا في الحالات الحادة أو الانتكاسات الشديدة.
في اللقاء الأول مع الدكتور طارق أسعد، وجدت رجلاً أنيقاً مهندماً، متوسط الطول، له نظارة كلاسيكية، وصوت هادئ مميز، أظن أنه لو لم يكن طبيب نفسي، لكان مذيعاً شهيراً في الراديو أو التلفزيون، وقد كانت المتلازمة الأساسية في حديثه كلمة "نشكر ربنا"، مع كل عبارة ينطقها، وقد تحدث معي حينها لدقائق قليلة، ثم طلب الانفراد بالمريض واستأذن في انصرافي لدقائق، حتى يبوح له المريض بكل ما يعترضه من وساوس وهلاوس.
لا أبالغ حين أقول إن رؤية الدكتور طارق أسعد، كانت بمثابة نصف العلاج، فالرجل بهدوئه المبهر، وكلماته الحانية، وتطميناته للمريض ومن حوله، تقطع الشوط الأكبر في العلاج، ومع الأدوية والنصائح للمريض، يتم الشفاء خلال أيام، ربما أسابيع قليلة، وكأن المرض لم يكن.
بعد متابعة الحالة المذكورة مع الدكتور طارق أسعد، لمدة عام كاملة، التي تحسنت بصورة كاملة واستعادت حياتها الطبيعية، لكن بعد 5 أعوام تقريباً، أهمل المريض العلاج، وعاد لانتكاسة حادة، وهنا لم يكن أمامنا إلا الحكيم الزاهد، طارق أسعد، وعيادة مصر الجديدة.
هاتفت الدكتور طارق أسعد لأذكره بتفاصيل الحالة، وما حدث لها من تطورات، وقد ظننته نسي المريض كعادة الأطباء المشاهير، إلا أنه قال:" دي حالة فلان، وأخبرني كل التفاصيل، وكأننا كنا عنده بالأمس، فأدركت أن هذا الرجل يعرف مرضاه كما يعرف أبناءه، ويعيش حالتهم، حتى لو غابوا سنوات.
الترحاب وحسن اللقاء والابتسامة الطيبة كانت في انتظارنا بعد 5 سنوات من الشهرة والنجاح والوصول إلى كل شاشات التلفزيون، ومنصات الصحف، التي لم تغير طارق أسعد الإنسان، فالعيادة لم تتغير بكل تفاصيلها، ومكتبه المملوء بكتب السيرة والتفسير، وبعد جلسات قصيرة استمرت عدة أشهر، عاد المريض لحالته الطبيعية، ونجاه الله من انتكاسته عاصفة، وفي كل مرة أذهب فيها، كنت أشتاق للجلوس مع هذا الحكيم الحاني، لأحصل على جرعة هادئة من المحبة والسلام النفسي.
في اللقاء الأخير مع الدكتور طارق أسعد، حاولت اقتطاع دقائق قليلة من وقته، وسألته:" لماذا لا تجهز برنامج تلفزيوني دائم ينفع الناس بعلمك بأحد القنوات المهمة؟" فأخبرني بأن لديه بعض التجارب الناجحة مع الإعلام، لكنه ليس رجل إعلام، فقد كرس حياته للعلم والمرضى، ولا يستطع أن يتفرغ لبرنامج أو عمل دائم في الإعلام، ويتخلى ولو قليلاً عن الجامعة والعيادة، وكان رقيقاً كعادته، ولو أنني كنت أعرف أن لقاءنا الأخير، لانفردت به وأجريت معه حواراً صحفياً ممتداً، أفتش خلاله في أعماق هذا الراهب المتواضع، الذي أعطى للعلم كل شيء.
كان موعدنا المقبل مطلع شهر يناير من عام 2019، لكن فوجئت ببيان من جامعة عين شمس، ينعى العالم الجليل في صباح يوم الخميس13 ديسمبر 2018، فلم أتمالك دموعي، واصطحبت معي زميلي محمود راغب، حتى وصلنا مسجد النور في العباسية، وشيعنا جنازة الفقيد طارق أسعد، حيث كان اللقاء الأخير مع روحه الطاهرة، التي حلقت إلى بارئها وفارقت الدنيا، تاركة إرث كبير من الحب في قلوب الآلاف من طلابه ومرضاه، فالسلام والرحمة لقديس العلم وحكيم العقول.