نحو عشرة اجتماعات للجنة السياسة النقدية، منذ قرارها الاضطرارى برفع الفائدة فى مارس 2022 استجابة للضغوط الناجمة عن حرب أوكرانيا، اختارت تثبيت السعر خمس مرات آخرها الخميس الماضى. تلك المُناصفة وما ترتّب عليها من تحريك بـ10 % ثُلثها تقريبًا فى مناسبة واحدة، تُشير إلى الرغبة فى تحقيق استقرار نسبى كلّما كان مُمكنًا، بأكثر ممّا يُمكن قراءتها ارتباكًا أو عدم وضوح فى الرؤية. إننا منذ الرصاصة الأولى بين موسكو وكييف، وبعد مُعاناة مُرهقة خلال إغلاقات كورونا وما سبّبته من محنة لأسواق العالم، نبدو مدفوعين إلى خيارات لا نُحبّها، ولم نكن نراهن عليها فى خططنا الاقتصادية والتنموية؛ لكنها الضرورة التى لا مانع فى مناورتها وتجريب الالتفاف عليها. القرار الأخير، بالدلالة والأثر، واحد من محاولات المناورة.
صحيح أن لدينا مستويات عائد مرتفعة فى الوقت الراهن، إلا أن ثباتها عند هذا الحد أفضل من تحريكها صعودًا، أو حتى هبوطًا. فى الأحوال غير الطبيعية قد تُصبح الفائدة أداة طائشة يمكن أن تكبح الاقتصاد أو تعصف بتوازن العرض والطلب: الانخفاض يُعزّز معروض النقد بما يحمله من مخاوف انفلات التضخم؛ لا سيما أن عجلة الاستهلاك أسرع دورانًا من ماكينات الإنتاج، أو إمدادات التجارة مع ضغوط تدبير الدولار، والرفع ينفخ فى العجز المالى ويُقوّض النموّ؛ فتقل السلع وتتراجع قدرة الدولة على المساندة الاجتماعية، بينما يصعب توقع المآلات مع اقتصاد خفىّ ضخم وحركة سيولة وفيرة وسريعة خارج الرصد الدقيق أو إمكانات السيطرة وضبط الأثر. التثبيت لا يعنى إبقاء المشهد على حاله، إنما يسمح بمجال للمناورة واستكشاف تفاعلات السوق، فى ضوء التحسُّن الملموس عالميًّا وانعكاساته على الداخل، وتخفيف العبء عن الموازنة الموشكة على الانتهاء بعدما تكبّدت فواتير مُتتابعة بالغة الثقل، والرهان على الثبات النسبى فى تطمين السوق وكسر التوقعات. لو كانت الضغوط على مستوى العنف السابق لم يكن البنك المركزى ليُغامر بالتثبيت، وبالمثل فإن الظرف لا يحتمل التخفيض، لحسابات اجتماعية ونقدية وتخص المالية العامة.. باختصار، لا تزال التحديات صعبة من دون شك؛ لكن المشهد لا يخلو من إشارات وبشائر مُطمئنة.
المُكوّن الغالب على مُسبّبات التضخم يبدو خارج قدرتنا على التحكُّم. اتّسعت الموجة مدفوعةً بضغط من جانب العرض، بالنظر إلى ارتفاع الأسعار وزيادة تكلفة الإنتاج والاستيراد والنقل واضطراب سلاسل الإمداد عالميًّا، ما يعنى أننا نعيش تضخُّمًا مُستوردًا فى أغلبه، ولا نستبعد بالطبع بعض العوامل الداخلية، المهم أن رفع الفائدة فى تلك الحالة لا يمكن إطلاقًا أن يكون أداة فعّالة فى السيطرة على نموّ الأسعار بشكل نهائى؛ إنما كان اللجوء إليه علاجًا تلطيفيًّا مُؤقّتًا؛ بمعنى أنه إذا كنا نستورد تضخم العالم مُضطرين، فقد يكون الحل فى تقليص الطلب حتى لا تنتفخ الفقّاعة إلى مدى خارج السيطرة، تجنُّبًا لاستنزاف الموارد الدولارية والعصف الكامل بميزانى التجارة والمدفوعات. الآن يبدو الطلب فى حدود معقولة ومُستقرّة، ولن يكون هناك أثر إيجابى لرفع الفائدة على مُعادلة الأسعار، وهكذا فإن قرار التثبيت يبدو استجابة ضرورية لاحتياجات آنية؛ حتى لا تتباطأ السوق أو يقف قطار النمو تمامًا.
يصعب الجزم يقينًا بما إذا كان العالم سيشهد موجات ارتدادية، أم يواصل مساره الصاعد نحو التعافى، أو ما قد تؤول إليه الأحوال الداخلية بعد تجاوز الفترة الضبابية؛ لكن الاستقرار النسبى حاليًا قد يشير إلى بقاء المشهد كما هو حتى نهاية الموازنة الجارية، وربما بعدها بفترة.. النزاع المعتاد فى كل الأسواق بين السياستين المالية والنقدية يبدو فى أقل حالاته صخبًا، إذ تلتقى الحكومة مع البنك المركزى على أجندة تتكامل فيها الجهود، من أجل إبقاء أدوات الدين عند مستوى جاذبية معقول دون إفلات لمحكوميّة العجز، مع السعى لتنمية موارد النقد الأجنبى من مصادر إضافية مُستحدثة. مُستهدف ضخ مليارى دولار من برنامج الطروحات خلال ستة أسابيع، بحسب تصريحات رسمية، ومن أجل الإبقاء على تسعير جيد للأصول، وعدم إزعاج الاستثمار غير المباشر رغم محدوديته، وتجنُّب الضغوط الاجتماعية أو زيادة كُلفة الالتزامات الدولارية الحالية؛ فقد يظل سعر الصرف عند مستوياته القائمة لعدة أسابيع على الأقل، إلى حين إنجاز المهام المرحلية والنظر فى مراجعة صندوق النقد ودفعته المقبلة.
نجح «المركزى» فى كسر التوقعات وإرباك المُضاربين. ثبات سعر الصرف فى المدى القريب يُطمئن المواطن والحكومة وأسواق رأس المال؛ إذ كلما طال أجل الاستقرار تقلّصت المخاطر وزادت الفائدة الحقيقية على السندات المُقوّمة بعملات أجنبية. الرؤية الآن تتجه إلى التوازن بين الاقتصاد بالمعنى الفنى ومن الزاوية الاجتماعية. إذا كان الاقتصاديون مُتّفقين على المفاهيم بمعايير رياضية لعلّها لا تقبل التنازع، فإن لدى المواطن تعريفات مُغايرة لا يمكن إسقاطها من الحسابات. فى الأوضاع الطبيعية قد لا ينشأ تعارض اجتماعى مع الربح، بل ومع التضخُّم نفسه؛ من حيث كونه أحد مُحفّزات النمو، لكن فى مناخ كالذى نعيشه تتقدّم مصلحة المستهلكين خطوة على بقيّة الاعتبارات، لا سيما ما يخص تسعير الاحتياجات الأساسية والسلع قليلة المُرونة. هنا نقف إزاء جدلية صاخبة: ما تحتاجه السوق وما يريده مستثمرو رأس المال، وإذا كان التوازن سيختل لا محالة؛ فليكن لصالح تضميد جراح الاقتصاد لا زيادة نزيفه.
يبدو أن الدولة اختارت مرحليًّا الحفاظ على استقرار الفائدة وسعر الصرف؛ ما يعنى التخلّى نوعًا ما عن فتح الباب لحرية حركة الأموال، على أن تتبدّل المُعادلة لاحقًا بحسب الالتزامات، وربما يكون هذا أسلم الخيارات وسط منافسة محتدمة دوليًّا. رفع الاحتياطى الفيدرالى الفائدة 10 مرات خلال 14 شهرًا لتتجاوز 5 %، وتشير التوقعات إلى احتمال رفعها مرتين أو ثلاثًا خلال ما تبقى من العام، أقربها الشهر المقبل، ولا يزال التضخُّم فوق مستهدفه بـ3 % تقريبًا، وتترقب الأسواق تجاوز أزمة سقف الديون بين الجمهوريين والديمقراطيين، مع ما يتبع ذلك من نهمٍ مُتوقّع من الخزانة الأمريكية، بعدما تباطأت وتيرة طروحاتها وتراكمت عليها الالتزامات، ومع فرص نمو الإنفاق الاجتماعى قبل موسم الانتخابات إذا نجح «بايدن» فى الإفلات من ضغوط خصومه التقشفية، ولا تختلف الصورة كثيرًا فى الأسواق الأوروبية التى سجّلت بعضها مستويات عائد قياسية.. وسط تلك الأجواء فإن رفع الفائدة أو تغيُّر سعر الصرف قد يُضاعف الأعباء على الاقتصاد الكلى من دون منفعة حقيقية، بالنظر إلى مسارات التمويل الدولية المُهتزّة نوعًا ما، وإلى أن فى جعبة «المركزى» مرّة مُؤجّلة ترتبط بزحزحة سعر الصرف، ومن الأفضل ألا يسبقها ابتكار لأعباء يُمكن الإفلات منها.
فى الوقت الراهن لا خوف من وفرة السيولة المالية، وقد تراجعت مُعدّلات نموّها، بفعل حزمة آثار بينها الشهادات البنكية وزيادة الطلب على الذهب. كما أنه بعد قرار لجنة التسعير التلقائى للوقود فإن من الأفضل تنحية ضغوط رفع الفائدة أو تحريك سعر الصرف جانبًا؛ من أجل استقرار السوق لأطول فترة مُمكنة، خاصة مع موسم الصيف وعيد الأضحى وآثارهما المُعتادة على الإنفاق والتزامات الأُسر. اتصالاً بذلك فإن اللمحة المُطمئنة أن العائد يتحدَّد فى ضوء معدلات التضخم المُتوقَّعة لا القائمة، وإن كانت قد تراجعت فى إبريل بنحو 2.1 % على أساس سنوى و1 % على أساس شهرى، فإن المعنى الأهم أنه لا قلق من زيادة الضغوط التضخّمية حتى موعد اجتماع لجنة السياسة النقدية المُقبل على الأقل، حتى مع أثر الزيادة المُنتظرة فى الطلب على سلّة الغذاء وعلى الترفيه وقطاع الخدمات.
خلال نحو سنة تحرّكت الفائدة 1000 نقطة أساس. كان 80 % منها خلال 2022 وحصة الربع الأخير وحده 500 نقطة. الآن نقترب من انتصاف العام ولم يشهد 2023 إلا تحريكًا وحيدًا بـ200 نقطة. ما حدث العام الماضى فرض على سلطات النقد اتخاذ إجراءات صارمة، نتجت عنها صدمات قاسية على الصرف ونموّ ضخم فى العجز، وهى أمور مُرشّحة للتكرار مع أيّة انعطافات حادة للجنيه. تحتاج السوق إلى فسحة للتنفس الطبيعى خارج مضمار الكرّ والفر، لا سيما مع أثر التقييد الاستباقى ورفع الاحتياطى الإلزامى 400 نقطة، وانتعاش العوائد الدولارية مع ترشيد إنفاقها، ومع انتهاج الحكومة مسارًا لتحفيز الاستثمار المُباشر؛ بغرض زيادة الإنتاج وجذب رؤوس أموال تُوظَّف ضمن خطط التنمية الحقيقية. شهد الثلاثاء الماضى اجتماعًا للمجلس الأعلى للاستثمار بعد إعادة تشكيله برئاسة السيسى، أكّد فيه الرئيس التزام الدولة بالقضاء على البيروقراطية ومساندة القطاع الخاص. وأثمر 22 قرارًا مهمَّة، تشمل: تيسير التراخيص وتملُّك الأراضى وتأسيس الشركات، وتعزيز الحياد التنافسى، وتخفيف الأعباء عبر ضوابط تقوّض صلاحية فرض الرسوم وتسمح بمقاصة الحقوق والالتزامات، وإعداد وثيقة «سياسات ضريبية»، وتعديل قانون تحويل الأرباح، ووضع استراتيجية واضحة للاستثمار، والسعى للتقدُّم على مُؤشّر سهولة ممارسة الأعمال.. تبدو الدولة جاهزةً بالإجراءات والقرارات، وقادرة على إنفاذ رؤاها الإنقاذية، وفى هذا المناخ يعلو الرهان على الإنتاج والنمو الحقيقى، وتتراجع الحاجة إلى إغراء الديون عالية التكلفة، أو تقديم تنازلات قد يتبعها احتراق بلهيب الأموال الساخنة.
لسنا بمعرض استشفاء كامل، ولا ضمانة لأن تصمد أى توقعات أو تحليلات لأبعد من يوم عمل. كل الأمور مُمكنة، والعبرة بكفاءة الحركة بين المُمكنات. لعلّ التضخم والفائدة لم يصلا ذروتهما بعد، ولا قدرة على تنحية المُثيرات الخارجية؛ إنما الأوضاع العامة أكثر استقرارًا عمّا سبق. ربما عدم اليقين بشأن الأسواق العالمية ما زال قائمًا؛ لكن توقعات أسعار السلع ومُؤشّرات التعافى باتت أفضل، تباطأ التشديد النقدى مع بدء انحسار التضخم، وتراجع النفط وقلّ ضغط سلاسل الإمداد.. محليًّا، انحسرت صدمات العرض نسبيًّا، ولا قلق من ضغوط الطلب منذ امتصاص آثارها الظاهرة أواخر 2022. حقّق الناتج نموًّا مُعتدلاً ويُتوقع أن يتسارع مدفوعًا بأداء السياحة والزراعة وتجارة التجزئة.
انخفضت البطالة، وهدأت السوق الموازية، وتستقر الاحتياطات الدولية، مع برامج اجتماعية وحزم تحفيز فعّالة. يمضى المسار نحو تعزيز القوة الشرائية، دون تقلّبات طارئة أو أعباء مُركّبة على المالية العامة فى سنتها القائمة، ما يُبشّر بأسابيع من الاستقرار وأهم منها بكفاءة إدارة المنظومة؛ الأمر الذى قد يسمح بتجاوز تحوّلات الصرف المُقبلة برُشدٍ فى المخاوف ووفرة من الأمل، والفكاك من مراحل الاستثناء إلى أُطر مُنضبطة وسوق مفتوحة وتوازنات حقيقية كاملة، بعيدًا من الحمائية الخانقة أو الانفتاح المفرط.. ربما لا تكون الصورة ورديّة؛ لكننا ثابتون أمام العواصف الطارئة، ولا يخلو الأمر من ضوء فى النفق، وعلامات على أننا لا نبعد كثيرًا عن الانفراجة، وعن قدرة السوق على الحياة المُنتظمة والعبور الآمن بين التحديات والفرص.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة