في حياته، وبعد رحيله، شاعت حول نجيب محفوظ أوهام عدة، واتهم، ظلما، باتهامات عديدة، وأبديت آراء وتصورات حول كتاباته انطلقت من قراءات سريعة حينا، وسطحية حينا، ومغرضة حينا.. وفي بعض الأحيان انطلقت من غير قراءة على الإطلاق؛ إذ كان مصدرها مجرد مشاهدة بعض الأفلام السينمائية التي تم تنفيذها عن قصص وروايات لمحفوظ.. ولم يكن بعض هذه الأفلام، في الحقيقة، قريبا من هذه القصص أو الروايات، أو في أحسن الأحوال كان يقدم قراءة سينمائية لها.. ونجيب محفوظ، كما نعرف، صرح أكثر من مرة، بأنه مسؤول فحسب عما كتب، وأكد، في أكثر من سياق، أن الفيلم السينمائي عمل مستقل عن أصله الأدبي، حتى ولو انطلق من هذا الأصل..
على كل حال، من بين الملاحظات التي أخذها ويأخذها البعض على نجيب محفوظ أنه لم يستخدم اللهجة العامية في كتاباته، سواء على مستوى السرد الذي يصف أو يحكي الأحداث، أو على مستوى حوارات الشخصيات.. وأنه التزم دائما بالكتابة بالعربية الفصحي، وتأسيسا على هذا؛ زعم هؤلاء أن هناك لغة واحدة، أو أن هناك مستوى لغويا واحدا، حاضرا وثابتا دائما في كل أعمال نجيب محفوظ، وماثلا دائما مع كل "الرواة" وكل الشخصيات في نصوصه..
ربما لا تدخل هذه الملاحظة في باب الاتهامات التي وجهت إلى نجيب محفوظ، وإن كانت تلوح، من زاوية ما، قريبة منه.. ومع ذلك، فهذه الملاحظة غير صحيحة..
فالقراءة العادية لأعمال نجيب محفوظ تلاحظ أن هناك فروقا واضحة، على مستوى اللغة، من عمل لآخر.. أو على الأقل بين مجموعة أعمال وأخرى.. والقراءة المدققة تلاحظ بسهولة أن لغة الراوي تختلف من ناحية مفرداتها وتراكيبها وصياغاتها عن "اللغات" التي تنطق بها الشخصيات، كما تلاحظ هذه القراءة المدققة أن لغات الشخصيات تتعدد وتتباين مستوياتها من شخصية لأخرى..وفي حالات كثيرة لا يشعر القارئ (المنصف) أن الشخصيات التي تستخدم كلمات فصيحة تتحدث بلغة فصيحة، بل تنطق بعبارات مشبعة بمفردات وتراكيب عامية، وأن لغة أو لغات هذه الشخصيات هي مجرد "تفصيح" للعامية..
مثلا، عندما يقول شخص لآخر، في عمل من أعمال محفوظ: "قم بنا"، فهذه العبارة تركيب عامي خالص، ولكن تم "تفصيحه"، ونستطيع أن نفهم منه على الفور أصله العامي: "قوم بينا".. وعندما تقول شخصية في عمل آخر من أعمال محفوظ: "يا ألف نهار أبيض" فنحن نفهم العبارة على الفور أيضا بدلالتها العامية وليس بمعناها الفصيح.. وهكذا مع عبارات أخرى وتراكيب أخرى مرتبطة بحوارات الشخصيات في أعمال محفوظ..
وعلى سبيل التمثيل فحسب، يمكن أن نلاحظ هذه التعبيرات (وكلها تأتي على ألسنة الشخصيات، وكلها مختلفة عن لغة الراوي): "أنت صاحب بيت"، "لا مؤاخذة"، "في عرضك"، "أنا عارفك وفاهمك"، "بصنعة لطافة"، "ادخل في الموضوع"، "ركبي سابت"، "لا يعجبه العجب"، "تشكر يا معلم"، "كلمة واحدة لا ثاني لها"..
هذه أمثلة سريعة، وغيرها كثير جدا في روايات نجيب محفوظ وقصصه.. وكلها مرتبطة باختيار نجيب محفوظ الذي ظل يحافظ عليه طوال رحلته الإبداعية: أن يكتب بالفصحى التي هي لغة المصريين والعرب، لأنه يأمل أن تصل كتاباته للمصريين والعرب..
ترى هل تكفي هذه الأمثلة (وأغلبها من رواية واحدة) لأن يعاد النظر في ذلك التصور المتعجل الذي يرى أن نجيب محفوظ كتب أعماله جميعا بلغة واحدة، وبمستوى لغوي واحد، شمل رواته وشخصياته جميعا؟
ربما!.. من ذا الذي يدري؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة