لو كان لنا أن نقول، بقدرٍ من المحبّة والتكثيف، إن القرآن نزل من اللوح المحفوظ، ومن سماوات الله العليّة؛ ليسكن حنجرةً واحدةً، ويقرأه شخصٌ واحد، لكان هذا الرجل دون جدال.
الرجل الذى حلّت ذكرى مولده الرابعة عشرة بعد المئة يوم الاثنين الماضى، حكاية مُدهشة، وقامة رفيعة سامقة فى دولة التلاوة، وُلِد فى محافظة الغربية سنة 1905، وغادر للقاء ربه من الإسكندرية فى 1978، وقرأ كتاب الله فى عشرات الدول، من الشرق للغرب، وقرأ مرتين فى المسجد الأقصى عامى 1960 و1977.
أنجز ختم القرآن فى كُتّاب قريته «ميت غزال» ولم يتجاوز الثانية عشرة، وراجع حفظه وتجويده ثلاثين مرة مع شيخه إدريس فاخر، فى المعهد الأحمدى بمدينة طنطا، ولم يكن تجاوز السادسة عشرة، وبدأت انطلاقة سهمه فى دولة التلاوة من عزاء أحد الوجهاء سنة 1921، قرأ فيه أمام سعد زغلول والأمير محمد على «الوصىّ لاحقًا على عرش الملك فاروق بعد وفاة والده أحمد فؤاد»، والأمير عمر طوسون، ومئات من وجهاء وأعيان مصر من كل المديريات والأقاليم.
مصطفى إسماعيل، أعلم قُرّاء القرآن بالمقامات وعلوم الأنغام، وأقدرهم عليها، كان يملك صوتًا فريدًا يتحرَّك فى المجالات النغمية على اتّساعها، كأنه قطعة حرير تنساب على رُخامة ملساء، قرأ على امتداد رحلته بـ19 مقامًا وتنويعاتها، بما يصل بها إلى 40 مقامًا، ويمكنك مُطالعة فُسيفساء نغميّة منها جميعًا مُتجاورة فى تلاوة واحدة له، لكنه يظلّ ملك «النهاوند» المُتوَّج دون منازع، وقد ترك قرابة 1500 تسجيل بين مصر وسوريا والعراق والكويت ولبنان وفلسطين وماليزيا وغيرها، مُحتشدةً بالبهاء الذى لا أوّل له ولا آخر.
امتلك «إسماعيل» مجالاً صوتيًّا عريضًا فى رقّة، وقويًّا عميقًا فى نَداوةٍ وعُذوبة، لكن إلى جانب ذلك كان أبرز ما فيه تلك القُدرة الحصيفة والمُحكمَة على لَجْم الحصان الجامح فى حنجرته، وكَبْح إمكانات التلوين والمَوسَقة وصناعة توتُّرات إيقاعيّة على مستوى الإطالة والإمالة والمُدود، لصالح إِبَانة الحرف واللفظ، وإتقان التعبير والدلالة، وتوظيف النغمة فى خدمة المَبنى، وجَعل المعنى محور ارتكازٍ أصلاً لتأسيس المعمار النغمى للجُملة الصوتيّة.
فى قراءته يبدو مصطفى إسماعيل مُتزلّجًا على هضبة من زُمرّد مشطوف، يعلو باندفاعٍ يحبس الأنفاس كأنّما يُغادر مجال الأرض إلى ذُرى السماء، ويهبط بحِدّةٍ خاطفة كأنه يُلامس قاع المُحيط، وبينهما يصنع ارتكازات إعجازيّة كمُناورة لاعب أكروبات ضخمٍ على حبل رفيعٍ مُعلّق بين جبلين، فلا هو بالمُتلكِّع ولا المهرول، لا يكاد يتوقَّف حتى يمضى، ولا يكاد المستمع ينساب مع سلسال صوته الدافئ حتى يتعثّر فى نبع ماءٍ جديد!
كان صاحب تلك الحنجرة الإعجازية يعتبر نفسه ربيبًا فى دولة الجليلين محمد رفعت وعبدالفتاح الشعشاعى، وحصل على إشادة ممزوجةٍ بالانبهار منهما فى أوج مجديهما، ورغم سموّ قامتيهما وسموقهما، فإنه حفىّ بأن يجلس إلى جوارهما، ويطاولهما، ويتفوق عليهما أحيانًا.
لم يكن الرجل قارئًا حصيفًا وصوتًا عميقًا وبليغًا فحسب، وإنما كان مُطربًا، بالمعنى الدلالى لفكرة الطرب لا المعنى الاصطلاحى، صوته ليس صوتًا بشريًّا عاديًّا، وإنما مصفوفة من النغمات الموسيقية المُجرَّدة، فكأنه بجانب فصاحته وإبانته آلةٌ موسيقيّة تقبض على لحنٍ مُحكَمٍ ويقبض عليها عازف حاذق.
كان الجلىّ البهىّ مصطفى إسماعيل يُوظّف صوته المُتّسع، كقُبّة سماء على أطراف محيط، والطيّع كعجينة صلصال بين يَدَى طفلٍ لاهٍ، توظيفًا مُتعدّد الأدوار، باقتدارٍ لا يُطاوَل، مازجًا أحكام التلاوة والتجويد بعلوم التفسير والموسيقى والبلاغة التعبيرية، فهو قارئ مُفسِّر يلوذ بالنغمات و»الركوز» والقفلات وانتقالات المقامات؛ لتقديم رؤية تعبيريّة وتمثيليّة وبيانيّة للمعنى القرآنى، كأنَّما يقيم حُجّة القرآن بالصوت إلى جانب الدلالة والعقل، وكأنّما يصنع دراما كاملةً وعالمًا منسوجًا بحرفيّة تضعك فى قلب المشهد، وقد وفّر له امتداد صوته، وطُول نَفَسهِ وقُدرته المُبهرة على تنظيمه، فرصةً ليُحلِّق عاليًا فى فضاء النصّ الربّانى، حتى أنّك تشعر فى سماعه وكأنه ركَّب لحنجرته جناحين عرضهما كعرض السماوات والأرض.
أُوقن تمامًا أن القرآن لم يُقرأ إلا فى مصر، ليست فى الأمر «شوفينية» أو تباهٍ مجانى كما قد يقرأ البعض فى إطلاقية العبارة، فمُخالطة الحنجرة المصرية للنصّ المُقدَّس أنتجت بهاءً لا يعلوه بهاء، وأستغرب للغاية أن يكون لدينا هذا الرجل، يجاوره: رفعت، والشعشاعى، والبنّا، والحصرى، وشعيشع، والمنشاوى، وغلوش، والسيد متولى، وعبد الباسط عبد الصمد، والشحّات أنور، والطنطاوى، والطبلاوى، وطوبار، والدمنهورى، والنقشبندى، والفشنى، وشعبان الصياد، وحجاج السويسى، وعبد العظيم زاهر، وعبد الرافع الشرقاوى، ويوسف البهتيمى، وفرج الله الشاذلى، ومئات غيرهم، ويسمع المصريون رسالة الله الأقدس من حناجر جافّة مُصطنَعة، لا روح فيها ولا نبعة ماء.
رغم عظيم التقدير لكل حَمَلة كتاب الله، إلا أن هناك فريقًا من القراء لا لون لهم، ولا طعم أو رائحة أو مدرسة، وإذا اصطفّ هذا الفريق إلى جانب أساطين التلاوة المصرية وفطاحلها، ستذروهم طاقة الجمال النابعة من تلك الحناجر الاستثنائية، كما يتبدّد ضوء شمعة تحت شمس قائظة.
مصطفى إسماعيل أحد معجزات ترتيل القرآن وتجويده، ورئيس دولة التلاوة وأنجب مواطنيها، وأجمل من مزج حنجرته ووعيه وثقافته وماء روحه بالكتاب الكريم، وفى كل إنشاد منه تتقطّر فيوض الله وتجلياته على آذان الناس وأرواحهم، فيتدفق القرآن من الضلوع إلى القلوب، ليّنًا زُلالاً، كما أنشأه الله فى أول خلق، وأنزله من عليائه؛ ليكون بردًا وسلامًا، ونغمًا شفيفًا يطرق الآذان؛ ليضبط إيقاع الأبدان، وفى ذلك كان مولانا سُلطانًا للنغم المُقدّس، يجرى الطرب على لسانه، وتتفجر الموسيقى من ثُقب مُضىء فى روحه اللامعة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة